
أكد السيد منير الخباز أن مفهوم العصمة في الفكر الإسلامي لا يعني سلب إرادة المعصوم أو تحويله إلى كائن مبرمج، بل هي مرتبة من السمو النفسي والاستقامة الأخلاقية تمنع صدور الذنب أو الخطأ، وتنبع من اختيار حر ووعي عميق.
وأوضح الخباز خلال محاضرة ألقاها في المركز الإسلامي بمدينة ديربورن الأمريكية، في الليلة السادسة من شهر محرم، أن هذه المرتبة العقائدية تقوم على عاملين رئيسيين: أحدهما فكري، والآخر وراثي، مبينًا كيفية التوفيق بين مبدأ العصمة ومبدأ الإرادة الحرة لدى الإنسان.
العامل الفكري: العلم في مرتبة “حق اليقين”
وبيّن أن العامل الفكري للعصمة يتمثل في بلوغ النبي أو الإمام مرتبة “حق اليقين”، وهي أعلى درجات المعرفة، حيث تنكشف فيها حقائق الأمور بوضوح مطلق. في هذا المستوى من الإدراك، لا تبقى المعصية مجرد فكرة مذمومة، بل تصبح قبحًا مشهودًا وواقعًا حيًّا، وكذلك الطاعة تصبح جمالًا ملموسًا.
وشبّه ذلك بالشخص العادي الذي يمتنع عن تناول السم لأنه يعلم يقينًا أضراره، مشددًا على أن هذا الامتناع لا يلغي حرية الاختيار، بل هو قرار نابع من وعي عميق وإدراك كامل، وهو ما يجعل طاعة المعصوم اختيارًا حرًّا واعيًا.
العامل الوراثي: النقاء السلالي والاصطفاء الإلهي
أما العامل الثاني، فتمثل في الجانب الوراثي، حيث أشار إلى أن النقاء الوراثي والنشأة في سلالات طاهرة، كما هو حال الأنبياء والأئمة، يلعب دورًا في بناء شخصية مستقيمة وسليمة. واستشهد بآيات قرآنية تحدثت عن الاصطفاء الإلهي للأنبياء وذرياتهم، موضحًا أن هذا الاصطفاء ليس مجرد شرف، بل إعداد نفسي وروحي يؤهلهم للقيام بمسؤولية الهداية.
وأكد أن اجتماع هذين العاملين – العلم اليقيني والإرث الطاهر – يُكوِّن أساسًا متينًا للعصمة، بما يجعل الانحراف الأخلاقي والنفسي أمرًا منفيًا عنهم بطبيعة تكوينهم، لا بسبب قيد أو إجبار.
العصمة لا تنفي الإرادة.. بل تؤكدها
وردًا على التساؤل القائل إن العصمة تقلل من فضل المعصوم، شدد الخباز على أن العصمة لا تتعارض مع الإرادة الحرة، بل تعززها، موضحًا أن المعصوم يمتلك القدرة على الخطأ كغيره، لكنه يمتنع عنه بإرادته واختياره، وهو ما وصفه بـ”الامتناع منه لا الامتناع عليه”.
ورأى أن هذا النوع من العصمة يعكس قوة الإرادة وعمق البصيرة، ما يجعل موقف المعصوم من الذنب محل تقدير وفضل كبير.
أدلة قرآنية تعزز مبدأ العصمة
ولتعزيز طرحه، استعرض الخباز مجموعة من الآيات القرآنية التي يرى أنها تؤسس لمبدأ العصمة، من أبرزها:
- آية التطهير التي تنفي الرجس عن أهل البيت.
- آية طاعة أولي الأمر التي جاءت مطلقة، مما يدل على عصمتهم.
- الآية التي تنص على أن الإمامة لا تنال الظالمين.
وأكد أن هذه الأدلة تشير إلى أن العصمة ليست مقامًا تشريفيًّا فقط، بل ضرورة وظيفية تقتضيها طبيعة مهمة الأنبياء والأئمة في هداية الناس.
قدوة عملية وتجسيد للأخلاق
واختتم الخباز حديثه بالتأكيد على أن الهدف الأسمى من العصمة هو أن يكون المعصومون قدوة عملية وأسوة أخلاقية للبشرية، مشيرًا إلى أنهم لا يكتفون بتقديم القيم نظريًّا، بل يجسدونها سلوكًا في واقع الحياة.
ودعا في ختام محاضرته إلى تمثّل هذه القيم في الحياة اليومية، والتعامل بها مع الجميع دون تمييز، باعتبار ذلك جوهر رسالة الأئمة ومضمون الدين الحقيقي.