ماذا لو طُلب منك ألا تدفن ميتاً لك؟ بالطبع لن تقبل ذلك. خاصة إذا كان الميت من الأرحام أو المقربين، فإكرام الميت التعجيل في دفنه كما ورد في الروايات الشريفة.
لكن هل تعلم أنك تقبل هذا الطلب باختيارك. بل ربما بإصرار من. بحيث تترك ميتك بلا تكفين أو دفن!!.
إنها الحقيقة المفجعة التي أبانها القرآن الناطق أمير المؤمنين -عليه السلام- حينما قال: (لو تكاشفتم ما تدافنتم)
ولعل من أهم الوقفات الهمة التي تستوقفنا في هذه العبارة البليغة هي:
الأولى: تظل أغلب الصفات الباطنية الشخصية كسوء النيات وقساوة القلوب، والصفات الذميمة (كالتكبر، والرياء) والمعاصي الشائنة في دائرة الخفاء، فلو اطلع الناس عليها لما قبل أحد أن يشارك في دفن أولئك الأموات!!.
الثانية: يلفت أمير المؤمنين -عليه السلام- إلى بشاعة ودناءة الصفات الذميمة والأعمال القبيحة التي يقترفها الناس بينهم سواء في سلب الحقوق، وانتهاك الأعراض وغيرها، فلا غرابة أن يقال إن بعض البشر هم في حقيقتهم شياطين، بل ربما أن شياطين الجن تتعلم من شياطين الإنس فنون الخسة والدناءة.
الثالثة: تُبنى العلاقات الاجتماعية بين الناس على الظواهر، وليس على البواطن، فلو اطلع كل شخص عما يحمله لغيره كالحسد والحقد، والغيبة والنميمة والقدح وغيرها من الصفات والأعمال المذمومة لما قبل أحد أن يدفن الآخر.
ولعل في القرآن الكريم ما يحتذى به في هذا المضمار، فموسى -عليه السلام لم يتحمل الإلمام ببواطن الحكمة والأحكام من الخضر عليه السلام، فكيف سيتحمل سائر الناس بواطن بعضهم؟!!.
الرابعة: عدم قبول الناس بدفن موتاهم يفضي إلى حقيقة مفادها: أن غالب الصفات الظاهرية للبشر لا تعكس حقائقهم الباطنية، فيتعامل أغلبهم بخلاف الفطرة السليمة (كالظلم، الحقد، الرياء، الدناءة) لذلك عبر الله -عز وجل- في ذلك بقوله: ( ولكن أكثركم للحق كارهون)
الخامسة: يطلع النبي محمد والأئمة الطاهرون صلوات الله عليهم أجمعين على ظواهر الناس وبواطنهم، بل حتى مستقبلهم ومصيرهم، مع ذلك ملكوا القدرة العجيبة في مداراة الناس والعيش بينهم، بل كانوا مصدر الرحمة الإلهية التي تفيض عليهم في كل مكان وزمان.
لذلك خاطب الله نبيه فقال: (وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين)، وورد في الزيارة الجامعة في السلام على أئمة الهدى عليهم السلام: (وَمَعْدِنَ الرَّحْمَةِ، والرحمة الموصولة).
السادسة: اقتضت الحكمة الإلهية أن نظام الحياة يسري بين الناس بمقتضى الأمور الظاهرية، فلو سارت حياتهم بمقتضى الأمور الباطنية لأصبحوا في صراع دائم، وانهدمت منظومة العلاقات الأسرية والاجتماعية، لدرجة أن لا يقبلوا دفن موتاهم.
لذا رد في دعاء يوم عرفة عن الإمام الحسين -عليه السلام- ما يؤكد ذلك: (وَلَوْ اطَّلَعُوا يا مولاي عَلى ما اطَّلَعْتَ عَلَيْهِ مِنِّي إِذا ما أَنْظَرُونِي وَلَرَفَضُونِي وَقَطَعُونِي)).لسابعة: تتألم الناس لمجرد رؤية عمل شائن ، وتتعاطف مع شخص مظلوم، فما حال الحلم الإلهي الكبير على البشر، وهو المطلع على صفاتهم الدنيئة وأعمالهم الخبيثة، فحلمه يفوق الاستيعاب؟!! لأنه القادر الذي يعامل البشر بحلمه قبل غضبه، وبرحمته قبل عدله.
الثامنة: لا يملك البشر رصيداً كافياً من الأعمال الحسنة التي تؤهلهم لنيل نعيم الجنة إلا بمقتضى الرحم الإلهية، ، ونيل الشفاعة من محمد وآل محمد صلوات الله عليهم أجمعين!!.
التاسعة: تشير العبارة البليغة لأمير المؤمني-عليه السلام-أم إلى أهمية تزكية النفس خاصة تجاه الناس بحمل صفا الخير، ، وطلب الهداية، ، وإن اختلف معهم، ، خصوصاً من أهل الإسلام والانتماء،، فلك الحق أن لا تقبل الرأي المختلف،، وتستنكر العمال قبيحاً، ، لكن بعيداً عن الشخصنة والقدح،، باستثناء موارد استثنائية أشارت إليها الروايات الشريفة. العاشرة : هل نتخيل أننا نمشي في شوارع تتخللها جثث أموات عارية متعفنة يتكاثر عليها الديدان ملقاة جوانبها؟!! ؟!!
يرفض بعض الناس دفن أمواتهم في عالم الدنيا لعلمهم ببواطن السيئة، فما هو ردة فعل الخلائق كلهم على شخص عُرضت كل صفاته الذميمة وأعماله القبيحة أمامهم يالقيامة؟!!.!!.
ما هو مستوى الخزي والعار الذي يلحق بالبشر حينما يقفون أمام الله-عز وجل-وجل والنبي وأهل بيته عليهم السلام وهم يحملون الصفات المذمومة والمعاصي الكبيرة التي اقترفوها في أنفسهم،، وكثرة الحقوق والأموال للناس ذمتهم؟!!!.
وكأن حال أمير المؤمن-عليه السلام-ليقول : البشر، ، ما أتعسكم الدنيا،، وما أشقاهم في الآخرة إن لم تزكوا أنفسكم،، وتصلحوا في بينكم، ، وتتحللوا من حقوق الناس المعلقة في أعقابكم، فلا عجب أن ترفضوا دفن موتاكم لو علم بواطنهم.م.
اللهم اجعلني خيراً يظنون، ، واغفر لي ما يعلمون،، ولا تؤاخذني بما يقولون بمحمد وآله الطاهرين صلوات الله عليهم أجمعين