يقول أحد الحكماء إن تربية الطفل يجب أن تبدأ قبل ولادته بعشرين عاماً، يخطئ من يرى أن التربية تبدأ في السنين الأولى من الإنجاب، التربية سلوك وثقافة تسري في دماء وعروق وأجنة ذلك المولود الذي نزح إلينا من عالم الذر إلى عالم الدنيا، ليبدأ عمارة الأرض أو خرابها، فالنطفة هي المكون الصالح من عدمه، فالتربية وإن حملت معاني كثيرة واختلافات في المفاهيم والمعاني بين المجتمعات الصناعية والريفية والمدنية إلا أن الاتفاق يتحد في القيمة الإصلاحية والاجتماعية وما يقدمه للمجتمع الإنساني بغض النظر عن خلفياتهم وميولهم الدينية والفكرية.
التربية هي نتاج متابعة مستمرة من الوالدين، ويعتبر الهدف من عملية التربية الصالحة هو الحصول على مجتمع متماسك ومجتمع متشبع بالقيم والمبادئ، حتى يكون صداً منيعاً لجميع الرياح العاتية التي تعرِّض المجتمع للانهيار، ويعتبر الأبناء هم اللبنة والبناء والمكون مستقبلاً، ومتى ما صلحت هذه اللبنة كان المجتمع قوياً متماسكاً، فكل المجتمعات التي آلة للسقوط والتخلف هي حالة طبيعية لأسر لم تحسن تربية أبنائها.
من الأسئلة المهمة في علم الأخلاق والتربية هذا السؤال: على من تقع مسؤولية تربية الأبناء؟ الأم أم الأب؟ والإجابة كالتالي وهو جواب الأغلب، تتحمل الأم الجزء الأكبر من تربية الأبناء لقربها والتصاقها بهم في أغلب الأوقات، فالمسؤولية مشتركة بمعنى أن الأب عليه أن يضع الأسس السليمة والصحيحة للتربية، وعلى الأم المتابعة، والجميع يعلم أن الوقت ليس كما كان قبل 30 سنة، فلابد من التعامل معهم بعقلية وأسلوب علمي يحقق في نفوسهم التوازن النفسي.
تواجه كثير من الأسر في وقتنا الحاضر كثيراً من المشكلات التربوية والسلوكية، وبالتحديد التعامل مع الطفل العنيد الذي يتسبب في إحراج أهله أولاً والتصادم مع الغير ثانياً، وهي مشكلة لا تدعو للقلق كما يقول علماء النفس إذا لم يصعد الوضع بعد دخوله للمدرسة. أمثال هؤلاء لا يعرفون في قاموس اللغة العربية كلمة لا، فهي بالنسبة لهم حق وملك لهم وحدهم بالرغم من أن الإنسان بطبعه اجتماعي إلا أن الأنا عنده متخمة وتبدأ تتبلور وتظهر على السطح بشكل أكبر في العام الرابع وتقل شيئاً فشيئاً بعد دخول المرحلة الابتدائية. بالتالي علينا تفهُّم هذه الحالة التي تتطلب من أسرته الصبر والتأني، بعض الآباء يفقد السيطرة ويستخدم القسوة، وهم مع الأسف الأكثرية، وبعضهم الآخر وهم القلة ينال مراده بعد تعب طويل. يقول علماء التربية: كثيراً ما يكون الآباء والأمهات هم السبب في تأصيل العناد لدى الأطفال؛ فالطفل يولد ولا يعرف شيئاً عن العناد، فالأم تعامل أطفالها بحب وتتصور أن من التربية الجيدة عدم تحقيق كل طلبات الطفل، في حين أن الطفل الذي يبني إرادته يصر عليها، وهي أيضاً تصر على العكس فيتربى الطفل على العناد. معالجة هذه الحالة النفسية تبدأ من خلال تفهُّم شعورهم بعدم التمييز بين إخوتهم والإكثار من المدح لهم والابتعاد قدر الإمكان عن الدلال الزائد وشطب صيغة الأمر في التعامل معه وعدم حرمانه من الألعاب التي يحبها، استخدام القسوة باختصار هو الذي ولد حالة العناد عندهم.
وقع في يدي قبل فترة كتاب لفت انتباهي بعنوان «حاول أن تروضني» لي راي ليفي - بيل أوهانلون - تلز نوريس جودوه، وهو عبارة عن خلاصة دراسات وتجارب وأبحاث حول ظاهرة العناد لدى الأطفال، واعتبر المؤلف الكتاب برنامجاً ثورياً لتربية الطفل العنيد دون أن تفقد الأسرة السيطرة على أعصابها، ويبدأ من عمر سنتين إلى 12 سنة. بأساليب بسيطة للسيطرة على نوبات الغضب وإيجاد التعاون، وقسَّم الكتاب إلى خمسة أجزاء، الجزء الأول لماذا تحول منزلنا إلى ساحة حرب؟ الجزء الثاني من الذي له السيطرة على عصا القيادة؟ الجزء الثالث التخلص من المسؤولية، الجزء الرابع زيادة القيمة بتكثيف الإيجابيات، الجزء الخامس عليك أن تحل المشكلة أو سوف أحلها أنا وهذا لن يعجبك.
سلط المؤلف الضوء على جانب مهم جداً في حياة الطفل، ويقول إن هناك نوعين من الأطفال العنيدين إما أنهم ولدوا هكذا واكتسبوا بعد ذلك هذه الصفة، والنوع الآخر من لديهم نزعة وراثة تدعوهم لتقبل هذه الصفة ويكونون مع الوقت جامحين، ونوع آخر ولكنه نادر وهو من يحيدون عن قواعد السلوك السوي ويفعلون ذلك فقط لإحراج الآخرين.
يركز راي ليفي على أربع علامات للطفل العنيد، وهي رغبتهم في السيطرة والانتهازية الاجتماعية، وعدم رؤية دورهم في أي مشكلة، القدرة على تحمل السلبية فهم يميلون إلى تحمل الغضب والعقاب الانفعالي بطريقة جيدة. الجميل في الكتاب عرضه الرائع والسلس للأفكار والحلول والنتائج.
في ظل العولمة والانفتاح على السيوشال ميديا أصبحت التربية عبئاً على جميع الأسرة، فلم تعد تجدي سياسة العصا والجزرة والعين الحمرة سبيلاً، يقول الإمام علي : لا تؤدبوا أولادكم بأخلاقكم، لأنهم خُلقوا لزمان غير زمانكم.