في زمن تتسارع فيه المتغيرات، وتتزاحم فيه الأصوات، يظل لصوت الحكمة مكانته، ولتربية الإنسان من الداخل أثر لا يغني عنه أي مظهر خارجي. فوسط انشغال العالم بالمظاهر، ينهض صُنّاع الوعي الحقيقيون ليرسموا للإنسان طريق العودة إلى ذاته، ويعيدوا تشكيل علاقته بمعنى الحياة وقيمة الأثر.
وضيفتنا اليوم واحدة من هذه النماذج الملهمة؛ مسيرة تجمع بين الرسالة والممارسة، وبين العمق المعرفي والتمكين النفسي.
تربّت على قيم التأمل والوعي، فحملت رسالة بناء الإنسان من الداخل، وسخّرت حضورها وخبرتها لتقديم نموذج واعٍ في التنمية الذاتية متصل بالجذور الإسلامية والاتزان القيمي.
نرحب بالمدربة إكرام بنت عبدالله الزهراني، الحاصلة على بكالوريوس الدراسات الإسلامية من جامعة الإمام عبدالرحمن بن فيصل، والمدرب المعتمد في المجال الاجتماعي وتطوير الذات، ومؤلفة كتاب (مفاتيح الضياء في عام1439هـ) وكتاب (استعيروا عيني في عام 1446هـ).
في هذا الحوار نسلّط الضوء على رحلتها الفكرية والإنسانية، ونلامس رؤاها في بناء الذات، وصناعة الحضور الواعي، وإعادة الإنسان إلى نقطة اتزانه الداخلي.
دلال الطريفي
- بدايةً.. كيف تعرّفين القارئ بنفسك بعيدًا عن التعريفات الرسمية؟
وهبني ربي شغفًا بتطوير نفسي، ومن حولي، ولدي إيمان عميق بأن داخل كل فرد بذرة خير إن سُقيت بالكلمات والدعم اللازم، وعُهدت بالرعاية أنبتت بكل جميل.
- ما الدافع الأول الذي قادكِ إلى دخول مجال التدريب الاجتماعي وتطوير الذات؟
كان الدافع إنسانيًا وتربويًا؛ إذ وجدت أن كثيرًا من مشكلاتنا الاجتماعية تنبع من غياب الوعي الذاتي، فآمنت بأن التدريب يمكن أن يكون وسيلة لإعادة الإنسان إلى توازنه، وتمكينه من مهارات الحياة والاتصال والتفاعل الإيجابي مع الآخرين
- هل كان دخولكِ هذا المجال نتيجة شغف مُبكر أم تراكم خبرات وتجارب شخصية؟
مزيج بين ما ذكرتِ؛ حيث ابتدأ بشغف خالطه تجارب علمتني، وخبرات صقلتني حتى انطلقت في عالم التدريب.
- في نظركِ ما الدور الحقيقي للتدريب الاجتماعي في تحسين جودة حياة الفرد والمجتمع؟
التدريب الاجتماعي هو أداة فاعلة لبناء الوعي والسلوك معًا؛ فهو يُعلّم الفرد كيف يفهم ذاته ويتعامل مع انفعالاته، ثم ينقل هذا الاتزان إلى أسرته ومجتمعه.
ومن هنا يتحقق التحول الحقيقي في جودة الحياة.
- يختلط على البعض مفهوم "تطوير الذات" مع الشعارات التحفيزية.. كيف تفرقين بينهما؟
الشعارات التحفيزية قد تكون وقتية وسرعان ما تنطفئ، وقد تكون بشكل إيجابي مفرط بعيد عن الحياة الواقعية، بخلاف التطوير فهو بحاجة للتعلم المستمر، والسعي نحو الأفضل بشكل يُساهم في رفع كفاءة حياة الفرد.
- ما القيم التي تحرصين على غرسها في متدرباتك قبل المهارات؟
أحرص على غرس قيم الوعي بالذات، والمسؤولية الشخصية، والصدق الداخلي، لأنها الأساس لكل مهارة سلوكية ناجحة. فالتدريب عندي ليس تلقينًا للمهارات، بل رحلة وعي تزرع القيم قبل الأدوات.
- كتابك "مفاتيح الضياء" يحمل عنوانًا لافتًا.. ما الفكرة الجوهرية التي بُني عليه؟
أولًا لماذا مفاتيح؟ لأن كل باب لابد له من مفتاح للولوج، وكل قلب لابد له من مفتاح للدخول، فأردت أن أشارك الآخرين وبالأخص المعلمين والمربيين بعضًا من المفاتيح التي تفتح لهم آفاقًا واسعة.
ولماذا الضياء؟ لأن الضياء تستنير به العقول فيساعدهم على الوصول لمعالي الأمور.
- وماذا عن كتاب "استعيروا عيني"؟ ما الرسالة التي أردتِ إيصالها للقارئ من خلاله؟
أردت أن أُعلّم القارئ كيف ينظر للأمور بزاوية مختلفة، وأن يستعير عينيّ في رؤية بعض الأمور بطريقة مغايرة عما عهده أو اعتاد عليه أو كبر في ذهنه وترسخ في أعماقه؛ نتيجة بعض المفاهيم المغلوطة أو المعتقدات الخاطئة.
- ما أبرز التحديات التي واجهتك في طريقك كمدرب معتمد؟ وكيف تجاوزتها؟
من أبرز التحديات مقاومة التغيير لدى البعض، والخلط بين مفهوم التدريب والمحاضرة.
تجاوزت ذلك بفضل الله ثم المحاولة مرارًا وتكرارًا بأن أجعل المتدربين يلمسون أثر التدريب عليهم بعد انتهاء البرنامج التدريبي، ومن ثم نقل آراء وتجارب من سبقهم، وكيف ساهم ذلك في التأثير عليهم بشكل إيجابي.
- هل هناك قصة نجاح أو موقف إنساني ترك بصمة خاصة لديك خلال رحلتك المهنية؟
حتمًا هناك الكثير، ولا يسعني أن أخص موقف بعينه، فلكل قصة طعم مختلف، ولكل موقف عملة فريدة، ولكل حدث فائدة تستقر في العمق.
وبعض الحروف قد لا توصل عمق الأثر الذي استقر في الروح وسكن.
- كيف تقيسين أثر برامجك التدريبية في الواقع وليس فقط على مستوى الحضور؟
برامجي تركّز على بناء وعي دائم، لذلك أقيس الأثر من خلال التغيّر السلوكي والانفعالي لدى المتدربات بعد فترة من انتهاء البرنامج.
التدريب ليس حضور دورة، بل بداية تغيير في طريقة التفكير والتفاعل مع المواقف.
- برأيك.. ما أهم المهارات الاجتماعية التي نفتقدها اليوم؟
لا أستطيع أن أعمم ولعلي ألحظ في الآونة الأخيرة مهارة المرونة؛ لا سيما أن المتغيرات سريعة.
ومهارة حل المشكلات؛ لأهميتها في مواجهة التحديات.
- كيف يُمكن للمرأة السعودية الاستفادة من برامج تطوير الذات لتعزيز حضورها الإيجابي في المجتمع؟
بداية من خلال إدراكها أن لها قيمة قيّمة، وأن وجودها يصنع فرقًا، ويضع بصمة فريدة ذات أثر طيب، ومن ثم أن يهتف علمها بعملها، وألا تستهين بدورها ومكانتها، وأنها على ثغر.
- أين ترين دور الأسرة في دعم ثقافة الوعي والتوازن النفسي؟
في حقيقة الأسرة هي الجذر الأساسي في دعم ثقافة الوعي، وتحقيق التوازن النفسي، فإن أحسنت الأسرة، وأولت أفرادها دعمًا حقيقيًا؛ استقامت الفروع وأثمر الوعي، وإن قصّرت أو لم تعطِ الفرد حقه من الدعم الكافي لاعوجت الفروع، وتراجع الوعي، وأصبح لا نفع منه.
- ما الرسالة التي تودّين إيصالها للجيل الصاعد من المدربين؟
أن التدريب أمانة عليهم أن يؤدّوا حقها، وأن يؤمنوا بأهمية الكلمة الطيبة، ومدى عمقها، ومالها من أثر طيّب على النفس والحياة، وأنها قد تكون سببًا في بناء إنسان، وجعله يسمو لمعالي الأمور، ويرتقي في حياته على مختلف الأصعدة.
- وأخيرًا.. كلمة أخيرة تختمين بها ؟
احرصوا عند الحديث بتحري الصدق، وعند الوعد بالوفاء به، وعند الأمانة بحفظها، وعند السقوط بالنهوض مجددًا، وعند الانفعال بضبطه، وعند الغيظ بكتمه، وعند القرار بعدم استعجاله.
واسألوا الله أن يعطيكم من خيري الدنيا والآخرة، وأسألوه أن يرزقكم الحكمة.
دمتم بحفظ الله ورعايته.
في ختام هذا الحوار المُلهم، تتقدّم صحيفة أصداء الديرة بخالص الشكر والتقدير للأستاذة إكرام بنت عبدالله الزهراني على حضورها الكريم، وما قدّمته من رؤى عميقة أثرت المحتوى الهادف، وأسهمت في تسليط الضوء على أهمية بناء الذات من الداخل، وتفعيل القيم قبل المهارات.
ندعو الله لها دوام التوفيق والسداد، وأن يمكّنها من مواصلة رسالتها في نشر الوعي، وإلهام الأجيال القادمة نحو حياة أكثر توازنًا وفاعلية.
دمتم جميعًا على بصيرة، ومفاتيح خير أينما حللتم.





