✳ إن أولى المرتكزات المعرفية الدالة على وعي المؤمن هي مدى عزيمته في تحصيل الغذاء الإيماني والروحي في الأشهر العبادية ، وكيفية توظيفها في بناء مسيرته الدنيوية وتحديد مستقبله الأخروية ، من خلال تحديد طريقة التحاقه بأول القطارات المسافرة مع بداية شهر رجب وتحصيل أكبر حصيلة روحية تكفيه الوصول لمحطاته العبادية الباقية ، وكيف تكون هذه الحصيلة ضامنة له الانتقال إلى باقي محطاته الدنيوية السنوية الأخرى ، والتي عادة ما تكون هي الأخرى معتمدة على كمية مخزونه الروحي الذي ناله طيلة سفراته الروحية الثلاث في تلك السنة .
✳ يجب التفريق بين الجانب الروحي ووسائل بنائه في شخصية الانسان المؤمن في المواسم العبادية ، فكثرة الصلاة والصيام والتعبد.. وإن كانت كثرتها صلة وثيقة بالجانب الروحي في الشخصية الإيمانية ، إلا أنها وسائل له ، بينما البناء الروحي يتمثل في جوهرها ومضمونها المعنوي ، وهي التي تحدد مستوى الصلة الداخلية للمؤمن باللّه تعالى وانشداده النفسي والعاطفي به تعالى ، من حيث الإيمان والحب والإخلاص ، وما يرافق هذه السلوكيات العبادية من المعاني الثلاثة :خوف، ورجاء، وتواضع.
✳ من أهم المرتكزات التي يستند عليها المؤمن قبل صعوده لقطار السفر الإلهي في شهر رجب بحثه عن كوامن القوة الإيمانية والروحية في ذاته فيسعى لتنميتها، ويقف عند مواطن الخلل والخطأ فيقف موقف المصلح لها ، ويتنكر لذاته بالتجرد من تبعات البشر والتحلل منها.
✳ المؤمن كراكب سفينة تبحر به في بحار واسعة تتوسطها أمواج متلاطمة وأخطار مستمرة ، يحاول قدر إمكاناته التأقلم معها ، والحفاظ على توازنه خوفاً من السقوط من السفينة إلى وسط مياهه ، لذا عُد شهر رجب أول الأوقات المهيئة والهادئة التي منحها الله للمؤمن للتزود بمئونة التقوى لأنه مصدر القوة والعزيمة لإكمال مسيرة حياته ، وتحمل المخاطر والأمواج العاتية التي تحيط به ، ليصل في نهاية المطاف إلى العالم الأخروي بحالة من الاطمئنان ، والله يقول في ذلك :{ وَتَزَوَّدُواْ فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى وَاتَّقُونِ يَا أُوْلِي الأَلْبَابِ }.
✳ إن من أعظم تجليات الرحمة العظيمة لله عز وجل بعبده المؤمن في هذه الدنيا منحه محطات عبادية استثنائية ، يبدأها بشهر رجب المرجب يستطيع من خلالها أحداث تغيير جذري في مسيرة حياته وتحديد مستقبله الأخروي ، بإيصالها إلى مراتب كمالية راقية في العلاقة مع الله والتعامل مع الناس .
✳ تتزامن حالة التعرض لرحمات ونسمات الرحمة الإلهية في شهر رجب بقرار مصيري يتخذه المؤمن قبل تحديد توقيت توجهه إلى محطة القطار الرجبي المتمثل في قرار التوبة النصوحة ،بحيث يستطيع أن يخفف رويداً رويداً من تبعات الحمل الثقيل وأدران الذنوب والخطايا الصغيرة والكبيرة التي احتطبها على ظهره طوال عمره .
✳ يفترض أن يكون قرار التوبة النصوحة متزامناً مع دخول شهر رجب كونها الفرصة السانحة والذهبية التي ربما لاتعوّض للمؤمن ، وقد لا تتكرر له مرة أخرى .؟ فربما يكون شهر رجب هذا هو الشهر الأخير في حياته ، وهذا ما أكد عليه النبي الأكرم (ص) بالإتيان به في شهر رجب فقال : فاستكثروا من قول أستغفر الله وأسأله التوبة.
✳ يعتبر شهر رجب من أفضل التوقيتات الزمنية لإيجاد مقتضيات التوبة ، وهي الخطوات التي تضمن بأن يكون المؤمن من صنف الناجحين في تحصيل التوبة النصوحة من الله تعالى في هذا الشهر العظيم ، ومن تلك المقتضيات : العودة الكاملة إلى الله سبحانه وتعالى ، والحذر من الابتعاد عنه، سواء بارتكاب المعصية أو بمخالفة أوامر الوجوب ، أو بفعل المكروهات وترك المستحبات ، أو الاستخفاف بصغائر الذنوب.
✳ قرار التوبة الذي يتخذه المؤمن في شهر رجب يتطلب نسبة عالية من التضحية والمواجهة مع الذات بسبب تعلقها بالملذات الدنيوية ، ويتوقف على قدرته بالتضحية بها وهي عملية شاقّة وصعبة - وبالذات إذا مسّت المصالح الرئيسة للإنسان ، فالإنسان لديه مصالح ثانوية وأخرى رئيسة ، وعليه فإذا مسّت التوبة المصالح الرئيسة كالمال وحب الذات مثلاً ، فالتضحية بها يكون من أشقّ الأعمال على الأنسان ، لكن يتوجب على المؤمن تحمّل هذه المشقة والخسارة العاجلة، حتى لا يتورط في الخسارة الدائمة الآجلة.
✳ يتوجب على المؤمن أتخاذ قرار مصيري مع ذاته بحيث ينظر إلى مستوى تمهيده لأرضية نفسيته لتلقّي قرار التوبة ، لينزل ذلك القرار على ذاته كالماء الزلال العذب على الأرض الجدباء ، فتنبت في نفسه الشجرة الخضراء اليافعة ، فإن لم يستطع القيام بذلك فسيكون شهر رجب كسائر الأعوام الماضية ، ويذهب ليأتي في العام القادم وهو واقف في مكانه أمام حركة الزمن السريعة ، وربما لا تستمر مدة وقوفه فترة طويلة ، فيدركه الأجل حينئذ لايفيد الندم ، قال تعالى: قَالَ رَبِّ ارْجِعُونِ، لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحاً فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِن وَرَائِهِم بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ .
✳ تزامن بين مدلول هذا شهر رجب بمفهوم الرحمة من عند لله التي لا تنال إلا بشرط قرار من العبد بالتوبة النصوحة ، حينها يمكنه أن يستنزل رحمة الله في هذا الشهر العظيم ، ويتلمس فيها مستوى عظمته .
✳ هيئ الله للمؤمن الأجواء الإيمانية في شهر رجب ، بحيث مكنه لاستغلال هذه الأجواء لإعادة حساباته الدنيوية مع الله ، ومع بني البشر ، وأوكل إليه قرار التغيير والعودة إلى الله والتوبة والإنابة إليه .
✳ شهر رجب الأصبّ ، وهو بالحقيقة بوابة لأشهر التوبة وتلقي الفيوضات والرحمات الالهية، يدلف من خلالها الانسان الى عالَم الصفاء والنقاء والقرب من الله ، ليكون له محطة استراحة من عناء الجري خلف الماديات والملذّات التي لا تنتهي في عالم الدنيا.
✳ من الطرائف الخفية لمسمى شهر رجب هو معاني من المعاني والصفات الإلهية التي ترتبط بلطفه ، فالراء يرمز إلى رحمة الله ، والجيم إلى جود الله ، والباء ترمز لبر الله ، وورد ايضاً أنه سُمي بشهر التوبة.
✳ شهر رجب هو الشهر الأصب لما له من الحرمة والفضل ، وكونه من الأربعة الحرم التي اختارها الله ، وسمي الأصب لأن رحمة الله تصبر على أمة محمد (ص) صباً ،وسمي رجب المرَجَّم لأن الشياطين ترجم فيه لئلا يؤذوا المؤمنين .
✳ ارتبط مسمى شهر رجب الأصب بشخصية أمير المؤمنين(ع) كون الأصب أسم من اسماء أمير المؤمنين (ع) كما ورد في البحار ، وكون الأصب أسم لنهر موجود بالجنة الذي وصفته رواية الإمام موسى بن جعفر(ع) أنه أشد بياضاً من اللبن وأحلى من العسل ، لمن صام يوماً من شهر رجب فيسقى منه.
✳ يدل الحديث الذي وصف شهر رجب أنه نهر من الجنة ، فأصبح التعرض لرحمة الله في هذا الشهر مرتبط بالمعرفة والإيمان بالله ، المرتبط هو الأخر بمعرفة ولاية أمير المؤمنين(ع) ، بحيث تتوقف حصيلة التحصيل والكم الهائل والقبول بالممارسات العبادية والدينية بمدى معرفتهم وقبولهم بولاية أمير المؤمنين(ع) ، وهذا ماتؤكده الرواية التي تنسب إلى إبي جعفر (ع) في قوله تعالى : {وَأَلَّوِ اسْتَقَامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْنَاهُم مَّاء غَدَقاً } قال : أي لو استقاموا على ولاية علي بن أبي طالب (ع) أمير المؤمنين والأوصياء من ولده(ع) وقبلوا طاعتهم في أمرهم ونهيهم لأسقيناهم ماء غدقاً ، يقول : لأشربناهم في قلوبهم الإيمان ، والطريقة هي الإيمان بولاية علي والأوصياء (ع)، وهذا ما أكده الإمام الرضا (ع) في حديث السلسلة الذهبية حينما قال : لا إله إلاّ الله حصني، فمن دخل حصني أمنَ من عذابي ، لكن أوجد شرط استثنائي يرتبط باكتمال الإيمان ، وهو شرط التمسك بعقيدة إمامته وإمامة آبائه الطاهرين فناداهم : بشرطها وشروطها وأنا من شروطها.
✳ شهر رجب أول المحطات الاستثنائية والفرصة الثمينة التي حباها الله للمؤمن التي تمكنه من التزود بالتقوى فقال تعالى: وَتَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوَى، فالمؤمن الفطن من بادر استغلال فترة ركوبه لقطار رجب قبل النزول منه خالي الوِفاض .
✳ شهر رجب من أولى المحطات الإلهية التي بمقدورها أن تخرج المؤمن دوامة الماديات إلى محطة الراحة النفسية من خلال المكتسبات الإيمانية والروحية التي يجهد للحصول عليها بتفريغ جزء من فترة هذا الشهر للتزود منها.
✳ تعتبر أول ليلة من شهر رجب ويومها أولى محطات الاختبار التي تبين مستوى الهمة والعزيمة التي يمتلكها المؤمن في تحمل مضمار السلوك إلى الله حيث ورد في آثار الأخبار ولآلئها: أنّ الليلة الأولى منه هي إحدى الليالي الأربع التي يتأكدّ إحياؤها بالغسل والعبادات ، ويتأكد الصيام في أول يوم منه .