يمكنك أن تكتب عنوان المقال بصورة أخرى ك: ”الامتنان بين الأحمق والجاهل“، أو ”أحسنوا انتقاء ألفاظكم“، أو ”العقول الرابحة والعقول الخاسرة“. وحينذاك قد لا يلتفت إلا القليل من القراء لقراءة المقال لأن العنوان مكرر أو غير ملفت للأنظار؛ وعليه اخترت عنوانًا آخر مع محتوى توصيفي موجز وتشخيص واقعي مزعج، ونتطلع لملامسة حلول لهكذا أزمة تدور رحاها بين بعض المتدينين وبعض العلمانيين.
يُصدم البعض منا بوجود شخص يدعي التدين «يُطلق عليه عُرفًا: شخص متدين»، أو شخص يدعي تبنيه لقيم الليبرالية والعلمانية «يُطلق عليه نعتًا: شخص علماني». وفي الواقع إن كل واحد منهما أجلف من صاحبه عند احتدام الحوار بينهما بسبب لسانهم الزَّفِر وأفعالهم المشينة ووقاحتهم البغيضة وجرأتهم المفرطة. فلا هذا المدعي للتدين أحسن للدين بالكلام الطيب والفعل المهذب، ولا ذاك المدعي للعلمانية سوَّق فكره العلماني الليبرالي المنفتح على الآخر عبر سلوك إنساني متحضر ولسان لبق. وبين هذا وذاك، ضاعت قواعد التواصل الإنساني الناجح والمبني على الكلمة الطيبة وقبول الآخر، وضاعت آداب الحوار بالإقناع ورد الحجة بالحجة واحترام المشاعر الإنسانية وحفظ الكرامة وتجنب الخوض في الأعراض وتفادي التهكم على اللون أو الشكل أو اللسان أو العرق، وأضاعا الهوية الاجتماعية وتماديا في الشماتة بالأموات.
لمدعي التدين «اختصارًا: متدين» نذكره بـ ﴿وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْنًا﴾ [البقرة: الآية 83]. الكلمة الطيبة هي أجمل الهدايا وأقلها سعرًا. الكلمة الطيبة تزرع لقائلها القبول والمحبة في نفوس وقلوب الآخرين، وتطيب بها قلوب المحيطين، ويعلو بها قدر الإنسان، ويزيد بها الأجر والمثوبة، وتمنع وقوع الضغائن.. وهي المفتاح لولوج قلوب الآخرين. وترجمة ذلك القول الصالح بعمل وسلوك راقٍ ونافع يجعل شجرة الود مثمرة داخل كل فضاء واقعي وافتراضي.
يُنسب إلى الإمام الصادق رواية: ”مَن يُتَّقى شرُّ لسانه فهو من أهل النار“. في العالم الرقمي، أضحى التراشق بالكلمات النابية عند البعض والتلاسن وإطلاق اللسان السليط بين الأطراف المتضادة في الأفكار والقناعات سمة بارزة، لا سيما مع تزايد الاستقطابات بين الناس في كل التوجهات تقريبًا. شخصيًا أشك بأن يكون الجزء الأكبر من التراشق أمرًا مفتعلًا من قبل جهات مشبوهة أو تجارية، هدفها أن تستدرج قليلي الوعي والقطيع المغيب إلى دخول مهاترات قد تستنزف قدرات المتورطين ومواردهم ووقتهم وراحتهم وطاقاتهم، وتهز قناعاتهم وتمسح ساحات المشتركات بينهم.
عند خوض حوار علمي ناهض، أو طرح موضوع تاريخي شائك، أو نقاش تحليل اقتصادي ناهض، نحن لا نفقد أصدقاء، ولكن نتعرف على الحقيقيين منهم. وليس هناك علاقة تستحق أن تدمر صحتك النفسية والعقلية والأخلاقية من أجلها. واغفر لنسختك الفكرية القديمة من نفسك عندما تجد أن وعيك ازداد وانكشفت لك حقائق بعض من هم حولك. وعلينا استيعاب حقيقة بأن الآخرون لم يُنشَأوا بنفس الطريقة التي نشأنا عليها. وأن الخطوة القادمة لأنفسنا أهم من خطوة سابقة قد أخطأناها وتعديناها. الكون يحب صاحب العطاء والأثر الطيب، فكن إحدى أولئك الطيبين.