لم يكن الشيخ كاظم الحريب رحمه الله مجرد طالب علمٍ تقليديٍ أو خطيبٍ واعظٍ يكتفي بالكلمة والنصيحة، بل كان نموذجًا فريدًا للعقل العملي المبدع، الذي جعل من الفكر وسيلةً لبناء الإنسان والمجتمع معًا. امتاز بشخصيةٍ متوازنة تجمع بين العلم والدين والإبداع، بين الحلم والعمل، وبين الفكرة والتنفيذ. لم يكن يعيش في برجٍ عاجيٍّ، بل في قلب الناس، بين بسطائهم وهمومهم، يبتكر الحلول، ويؤسس المبادرات، ويزرع بذور الخير في كل ميدانٍ يطؤه.
الإبداع في خدمة المجتمع
كان رحمه الله يرى أن الإبداع لا يكون حقيقيًا ما لم يُترجم إلى أثرٍ ملموسٍ في حياة الناس، لذلك لم يكتفِ بالتنظير أو إلقاء المحاضرات، بل أسس مشروعاتٍ اجتماعيةً غيرت مفهوم العمل الأهلي في مجتمعه.
فقد كان من أوائل المبادرين إلى إطلاق مشروع الزواج الجماعي الذي وحد القلوب وخفف الأعباء عن الشباب، وشارك في تأسيس لجنة الإبداع والتطوير لتكون منصةً لتوليد الأفكار وتحفيز الطاقات، كما أنشأ قروب "وهج الحروف" الذي جمع الموهوبين في الشعر والأدب، وفتح لهم أبواب التعبير الراقي عن ذواتهم.
ولم يقف عند ذلك، بل أنشأ قروباتٍ علميةً واجتماعية للإجابة عن الأسئلة الدينية والفكرية، وشجع على دورات الشعر والتعبير الأدبي، فكان المعلم والموجه والمُلهم في آنٍ واحد.
عقلية استشارية ومشاريع إصلاحية
حمل الشيخ الحريب شهادة الدكتوراه في علم الكوتشنج (التوجيه والإرشاد)، فكان مستشارًا أسريًا يُصلح بين الأزواج، ويُعيد التوازن للأسَر، ويسعى في إصلاح ذات البين بكل صدقٍ وإخلاص. لم تكن وساطاته شكلية، بل نابعة من قلبٍ محبٍّ للخير وعقلٍ يفكر خارج المألوف، فيبحث عن حلولٍ واقعيةٍ تحفظ الكرامة وتحقق السلام.
كما ساهم رحمه الله في دعم المراكز الأسرية، وشارك في برامج الجمعيات الخيرية لمساعدة المحتاجين، مؤمنًا بأن العطاء لا يُقاس بما يُنفق من مال، بل بما يُبذل من فكرٍ ووقتٍ وجهد.
تربية جيل من الشباب
أدرك الشيخ أن بناء المستقبل يبدأ من الإنسان، فكرّس جهوده في تربية جيلٍ من الشباب والأشبال على الأخلاق الإسلامية والأحكام الدينية الصحيحة. كان قريبًا منهم، يتحدث بلغتهم، يفتح لهم الأبواب نحو الفهم لا الحفظ، نحو الإبداع لا التكرار. وكان يرى في كل شابٍ مشروع قائدٍ، وفي كل طفلٍ بذرة أملٍ لمستقبلٍ أنقى.
قائد المبادرات ومُلهم النساء
قاد اللجنة الأهلية لخدمة البلد سنواتٍ طويلة، فحوّلها من كيانٍ إداريٍ إلى منظومةٍ فاعلةٍ في التنمية المحلية، وأطلق مهرجان التكريم السنوي الذي غرس ثقافة العرفان والتقدير في المجتمع. كما كان داعمًا أساسياً للجنة النسائية، مؤمنًا بدور المرأة في التنمية، ومتيحًا لها المساحة لتبدع وتشارك في العمل الاجتماعي.
البصمة العمرانية والروح الإنسانية
لم يكن الإبداع في فكره فقط، بل في فعله أيضًا، إذ ساهم في بناء المساجد والحسينيات لأهل البلد وكذلك مساهماته الفعالة في تأهيل مركز اكرام الموتى، ليبقى أثره ماثلاً في كل زاويةٍ يُرفع فيها الأذان أو يُذكر فيها اسم الله. كان يرى في العمران عبادة، وفي الجمال رسالة.
رجل المهمات الصعبة
وصفه المقربون بأنه رجل المهمات الصعبة، لأنه لم يكن يهرب من المسؤولية، بل يتقدم نحوها بثقةٍ وإيمان. امتاز بشجاعةٍ فكريةٍ نادرة، لا يخشى المبادرة، ولا يتردد في تطبيق الفكرة التي يؤمن بها، حتى لو كلفه ذلك وقته وصحته. كان يحتسب كل جهدٍ عند الله، يعيش للمبدأ لا للمجد، وللرسالة لا للراحة.
الشهيد الاجتماعي
رحل الشيخ كاظم الحريب رحيل المفاجأة، تاركًا فراغًا عميقًا وذكرى عطرة. لكن أعماله لا تزال تنبض في كل زاويةٍ من مجتمعه، في مشروعٍ يتواصل، أو شابٍ يواصل رسالته، أو فكرةٍ لا تزال تنير الطريق.
ولعل من الإنصاف أن نلقبه بـ "الشهيد الاجتماعي"، لأنه أفنى عمره في سبيل خدمة الناس، وعاش يحمل همّ المجتمع حتى آخر أنفاسه.
ختامها مسك
إن الجانب الإبداعي في شخصية الشيخ كاظم الحريب لم يكن زينة فكرية، بل هبة من الله استثمرها في الخير، وجعل منها طريقًا للنهضة والعمل. كان نموذجًا نادرًا للعالِم المبدع، الذي جمع بين الفكر والميدان، وبين التأمل والتنفيذ، وبين الروحانية والواقعية.
رحم الله الشيخ كاظم الحريب، وجزاه عن مجتمعه خير الجزاء، وجعل من تلامذته وأتباعه امتدادًا لذلك النور الذي تركه في القلوب قبل الأماكن.




