تتردّد في الأوساط الاجتماعية أسئلة كثيرة حول السحر والطبوب وقدرتهما على تفريق الأزواج وإحداث الخراب في البيوت والعلاقات، خصوصًا مع كثرة الشواهد التي يدّعي البعض أنّها لا تُنكر. غير أنّ العودة إلى القرآن الكريم وأقوال النبي الأعظم وأهل بيته (عليهم السلام) تكشف أنّ جانبًا كبيرًا من التصورات الشائعة حول السحر مبالغ فيه، وأنّ حقيقة تأثير الشيطان في الإنسان ليست كما يخيّل للعامة.
يبدأ الخطاب الإلهي بتقرير قاعدة كبرى لا تقبل التأويل: لا سلطان للشيطان على عباد الله. يقول سبحانه في محكم كتابه:
﴿إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ﴾ (الحجر: 42).
هذا الاعتراف من إبليس نفسه، الذي يقرّ بالعجز عن التأثير على عباد الله، إلا عبر الوسوسة لمن انقاد إليه وضعف إيمانه.
وتزيد الآيات الأمر وضوحًا في مشهد القيامة حين يتبرأ الشيطان من أتباعه قائلًا:
﴿وَما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ﴾ (إبراهيم: 22).
فلا قدرة له إلا بالدعوة والوسوسة، ولا عمل له سوى إثارة القابلية الضعيفة في النفس البشرية.
ويؤكد القرآن مجددًا أنّ الشيطان لا يملك سلطانًا على الذين آمنوا وتوكلوا على ربهم:
﴿إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ﴾ (النحل: 99).
السحر… حقيقة أم تضخيم؟
قد يستشهد البعض بالآية الواردة في قصة هاروت وماروت:
﴿فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَزَوْجِهِ﴾ (البقرة: 102).
لكنّ الآية نفسها تكمل:
﴿وَما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلّا بِإِذْنِ اللّٰهِ﴾.
هذه الجملة المفتاحية تُنسف كل التصورات الشعبية:
السحر لا يعمل بذاته، ولا يخلق عداوة من عدم، ولا يهدم بيتًا مستقرًا، بل يستغلّ قابلية داخلية موجودة أصلًا: توتر، سوء ظن، غضب، هشاشة روحية، خوف… إلخ.
هو إثارة للموجود لا خلق لغير الموجود.
بين النفث الملكوتي والوسواس الخنّاس
جاء في حديث النبي الأعظم (ص):
«مَا مِنْ مُؤْمِنٍ إِلّا وَلِقَلْبِهِ… أُذُنٌ يَنْفُثُ فِيهَا الْمَلَكُ، وَأُذُنٌ يَنْفُثُ فِيهَا الْوَسْوَاسُ الخَنَّاسُ…»
بحار الأنوار، ج٦٠، ص١٩٤.
ويشرح الإمام الصادق (ع):
«مَا مِنْ قَلْبٍ إِلّا وَلَهُ أُذُنَانِ… عَلَىٰ أَحَدِهِمَا مَلَكٌ… وَعَلَىٰ الْآخَرِ شَيْطَانٌ مُفْتَرٍ…»
بحار الأنوار، ج٦٠، ص٢٤٥.
هاتان الروايتان تضعان ميزان الفطرة أمام حقيقة راسخة:
التأثير الحقيقي يأتي من الداخل… من قابلية الإنسان، لا من قوة السحر.
قوة السحر الحقيقية… من منظور أهل البيت (ع)
سُئل الإمام الصادق (ع) عن قدرة السحر، فقال:
«هُوَ أَعْجَزُ وَأَضْعَفُ مِنْ أَنْ يُغَيِّرَ خَلْقَ اللّٰهِ… لَوْ قَدَرَ لَدَفَعَ عَنْ نَفْسِهِ الْهُمُومَ وَالْآفَاتِ…»
بحار الأنوار، ج١٠، ص١٦٨.
الرواية صريحة:
السحر موجود، لكنه أعجز بكثير مما يتصوره الناس.
وما نراه من تغيّرات مفاجئة في سلوك بعض الأشخاص كثيرًا ما يكون نتيجة ضغوط نفسية، توتر، صدمات، تراكمات زوجية… ثم يُعلّق على السحر لأنه أسهل تفسير.
هل للشيطان قدرة على اقتحام البيوت؟
يقول أمير المؤمنين (ع):
«احذروا عدوًا نفذ في الصدور خفيًا، ونفث في الآذان نجيًّا».
ميزان الحكمة، ج5، ص1920.
هو لا يقتحم بيتًا بالسحر… بل يقتحم القلب حين يضعف اليقين، وينفذ من خلال الشرخ الداخلي:
ضعف روحي، انفعال زائد، غياب الحوار، سوء فهم، قرارات غضبية.
وقد أكّد القرآن أن تأثير الشيطان نفسي لا جبري:
﴿يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ﴾ (آل عمران: 175).
﴿وَما يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلَّا غُرُورًا﴾ (النساء: 120).
قرارات الخراب… مصدرها الإنسان لا السحر
يقول الإمام السجاد (ع) في مناجاته:
«إلهي أشكو إليك عدوًا يضلني… قد ملأ بالوسواس صدري… ويحول بيني وبين الطاعة…» بحار الأنوار، ج94، ص143.
الرواية تؤكد أنّ الإنسان هو صاحب القرار:
الطلاق، الخصام، قطع الرحم… كلها أفعال نابعة من إرادة الإنسان، لا من إرادة ساحر أو جني.
فالشيطان يهمس… والإنسان يختار.
العلاج الحقيقي… إصلاح الداخل لا مطاردة الوهم
يضع القرآن وصفة معالجة الوسوسة بوضوح:
﴿إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذَا مَسَّهُمْ طَائِفٌ مِنَ الشَّيْطَانِ تَذَكَّرُوا فَإِذَا هُمْ مُبْصِرُونَ﴾ (الأعراف: 201).
بحار الأنوار، ج٦٧، ص٤١.
الذكر… هو العلاج.
لا التبخير، ولا الأحجبة، ولا اتهام الناس بالسحر.
والأقوى من ذلك قوله تعالى:
﴿إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطَانِ كَانَ ضَعِيفًا﴾ (النساء: 76).
خلاصة المقال… كلمة تهزّ القلب
الجن لا يملك قلبك.
السحر لا يملك قرارك.
الشيطان لا يملك حياتك.
ولو كان السحر قادرًا على تدمير البيوت… لما بقي بيت على ظهر الأرض.
إنما هي سحب نفسية تمرّ، يزيد الشيطان سوادها، لكنّ شمس اليقين تَمْزُقها حين يعود القلب إلى الله، ويعالج الداخل بدل مطاردة الوهم.
والحمد لله رب العالمين.




