تكامل القدرة التفكيرية و الرؤية الشاملة عند النظر للأمور و العلاقات لا تأتي دفعة واحدة بل يلعب العامل الزمني دورا محوريا في تساميها و تعاليها إلى الدرجات العليا ، و لذا فإن التقدّم في العمر مؤشر مهم في النضج الفكري و القدرة على التعاطي مع الصعوبات و الأزمات بقدر كبير من تحمّل المسئولية و اتخاذ القرارات المناسبة ، و لكن هذه القناعة بتكامل العقول و تأثير تقادم الأيام لا يتأتّى مع كل الناس ، بل نجد من تتوقف ساعة عمره الفكري دون تقدّم مع ما يملكه من رصيد كبير بعدد السنوات التي عاشها ، و ذلك أن التجارب الذاتية التي عاشها و عايشها لم يستخلص منها الدروس و العبر ،
و كل ذلك الكم من أوجه التقصير و القدر الكبير من الأخطاء لم يغيّر مجرى حياته و التوقف عن مسلسل الخسارة ، حيث أن الشعور بالألم و الإحساس بالخذلان أمام الصدمات و صفعات الزمن إذا لم يتحوّل إلى درس و تجربة تنير دربه في الحياة مستقبلا فلن تتكامل قدراته الفكرية .
النضج الفكري و العاطفي و الاجتماعي يؤثر فيه عدة عوامل ، و أهمها : الاستفادة من التجارب و المواقف و استخلاص الدروس منها ؛ ليتكوّن مخزون الخبرات كطير اكتسى بدنه بالريش و استطاع الطيران و التحليق في فضاء ميادين الحياة و بناء العلاقات الوازنة ، حيث أن الإنسان الغَرّ في بداية شبابه قد يتخذ القرارات المتهوّرة و العاطفية المتسرعة و الخضوع لعامل الانفعال الشديد بما ينعكس على طريقة تفكيره و اتخاذ القرارات و المواقف ، و لكن مع التقدم في العمر و التعرض لتجارب مريرة يصبح أكثر اتزانًا و قدرة على اتخاذ قرارات عقلانية و أكثر حكمة ، و هذا الاتجاه ليس بصحيح في كل حالاته بل هو رهين بالتفاعل الإيجابي مع التجارب و الاستنارة بدروسها في المواقف القادمة ، بما ينعكس على وعيه و إدراكه للأمور و التعامل معها بتأنّ و حكمة و البحث عن الاتجاهات المحتملة لأي مشكلة ، و بما يساعده على فهم ذاته و معرفة نقاط القوة و الضعف عنده ، و يتبلور عنده عامل قوة مهم و هو القدرة على التكيّف مع الآلام المزمنة و الصعوبات المتتالية دون تأفّف أو تشاؤم .
النضج في شخصية الإنسان تلعب التجارب الذاتية دورا في بلورته ، حيث أنها تمثل فرصة للتعلم و المواجهة الذكية مع الظروف الصعبة و معالجة الأخطاء بعيدا عن الانفعال ، و هي محطات ضرورية للوعي و التطور و الوعي بالذات و الانطلاق في ميدان العمل المثابر .
و على مستوى النضج الاجتماعي و إقامة العلاقات وصولا إلى حالة الانسجام و التوافق و التقارب في وجهات النظر ، لا شك أن الفرد يمر بمحطات الخيبة و الألم من بعض الأشخاص ، و مؤشر نضجه الاجتماعي هو تجاوزه لتلك التجارب المؤلمة و تحويلها إلى درس ، فيعمل على إعادة تقييم علاقاته و تصحيح مسيرته الاجتماعية و يدفعه إلى الانفصال عن التوقعات المثالية و الانتقال إلى رؤية أكثر واقعية للحياة ، فالإنسان لا يُولد مُكتملا بل عليه أن يصنع ذاته من خلال الأزمات و محطات الاختبار ، فالألم ليس مجرد معاناة بل مادة خام لصياغة الذات ، و النضج الفكري هو نتاج الاشتباك و المواجهة مع هذا الألم ، فيُنظر إلى الألم كفرصة لإعادة تشكيل معنى الحياة لا كحالة سلبية يجب التخلص منها .