لي أستاذ بارع في مجاله وفي الخطابة أيما براعة إلى الحد الذي يأسرك حتى يغدو أسره جنة لا ترى مثلها نعيم مهما كانت زينتها.. لندرة تنوع روافده وثمارها. لكن من المفارقات.. سبب الغنى والوفرة في جنته أُخذ ذريعة لنقده فقالوا عليه ألا يطرح قضايا علمية من خارج تخصصه ومجاله.
حاولت إبراز جمال هذه الصفة في أستاذي، فقمت مجمعاً زهور من حدائق متعدد منها التالي:
لقد استعنت بصديق متبحر [1] في العلوم تعرفت عليه حديثاً للحصول على أمثلة لهذه المقولة، عن قضايا علمية كسرت بحالات شاذة.. فقدم لي نماذج لقواعد من عدة علوم مثل :
القاعدة: كل عدد إذا ضُرب في صفر يعطي صفراً.
الشاذ: ليس هناك شذوذ داخل النظام، لكن توجد استثناءات في التعميمات. مثال: أي عدد مرفوع لقوة صفر يساوي 1، مع أن القاعدة قد توهم أنه «صفر × شيء = صفر». الرياضيات مجال صارم، لكن ”الشذوذ“ هنا يأتي من مفاهيم غير بديهية
تجلٍ إلهي
يتجلى هذا المعنى أكثر إذا ما كان ذلك النابغ المستخرج نفائس الفكر والحلول والعرض المشوق يرتع في حضن أم رؤوم بالعلم وتنشئته على الأسس الدينية والأخلاقية مما أفاضه محمد وآله الطاهرين صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين.. كما هو أستاذنا الأجل دام ظله. فكل من نال نصيباً وحظاً من الدروس الدينية سواء حوزوياً أم أكاديمياً لمس نفحة خاصة ولذة فريدة لا تجدها في العلوم الأخرى فكيف بمن غاص في تلك العلوم أنساً وحباً.
عندما يكون الخطيب عالماً فقيهاً مفكراً باحثاً مثقفاً.. يرتقي بالمنبر الحسيني إلى سماء الأطروحات العلمية ما يجسد طوداً يلوذ به المتعطشون للعلم والفكر والثقافة من أبناء المذهب الحق على صادقه أفضل الصلاة والسلام. لذلك في بعض المنعطفات الفكرية أو التحديات الثقافية التي تواجه المجتمع المؤمن يضطر العالم الخطيب إلى طرح بحوثٍ ليست من تخصصه ”المتعمق فيه“ خصوصاً من العلوم التجريبية لا لفرد العضلات الفكرية والعلمية ولكن لأن هناك مستوًى من رد بعض الشبهات يحتاج إلى أدوات حديثة لا يمكن الوصول إليها - لإيصالها للمجتمع - إلا من خلال طرحها بلغة معاصرة بلسان لغة العلوم التجريبية كالفيزياء والرياضيات أو الأكاديمية عموماً. وفي الحقيقة كمتابع لبعض تلك القضايا الفكرية اتباعاً محدوداً والردود الدينية عليها، لاحظت أن ما طرحه أستاذنا دام ظله لامس عقولنا لأنه استطاع أن يتحدث باللغة التي درسناها فبالتالي سد فراغاً وكون حلقة وصل بين الخطاب الحوزوي والأكاديمي بالتالي أصبح درعاً حصيناً ضد أفكار الإلحاد وشبهات الغرب وغيرهم.. وكذلك غيره من علمائنا الأجلاء.
في العمق والصلب .. لب المقال
عوداً على بدء.. ”ليس العلم بالتعلم“ هذه عبارة مقتبسة من الرواية الشهيرة لدى علمائنا العرفاء رضوان الله عليهم والتي أصبحت وصية العارف الأقدس في العصور المتأخرة لدى العرفاء - أي السيد علي القاضي رضوان الله عليه - لتلاميذه.
أرى من خلال متايعتي لأستاذنا الأجل دام ظلهعلى مدى 20 عاماً أنه مصداقاً لها لأنه استطاع بما لديه من استعدادات وتوفيق من الله تبارك وتعالى ومن تقى وورع - حيث أراه من عباد الله الصالحين إن لم يكن من أوليائه - وذلك من خلال نكات علمية عالج بها قضايا فكرية تنم عن جهد مضن يبذل وكذلك التحلي بالخلق الجذاب للمجتمع عموماً والشباب خصوصاً - كما هو حال كثير من علمائنا وفقهائنا وعرفائنا قدس الله أرواح الماضين وحفظ الله الباقين ومد في عمرهم الشريف -. بعض تلك المعالجات لم يتنبه إليها غيره من أهل الاختصاص فكان سباقاً - أقلاً من وجهة نظري - مع أن المعطيات موجودة للجميع إلا أن الفضل موجود هنا كما هو موجود بين الأنبياء {وَرَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَقَدْ فَضَّلْنَا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلَى بَعْضٍ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا «} [الإسراء: آية 55] فهذا هو حال هذه النشئة ”أَلَا وَ إِنَّ الْيَوْمَ الْمِضْمَارَ وَ غَداً السِّبَاقَ وَ السَّبَقَةُ الْجَنَّةُ وَ الْغَايَةُ النَّارُ“ «خطبه 28 - نهج البلاغة» ولا زال المضمار متاح {.. وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ} [المطففين: آية 26].
في مثل هذه الأجواء خصوصاً أمام رجال أنفقوا عشرات السنين من عمرهم في مناجاة علوم آل محمد صلوات الله وسلامه عليهم أجمعين ومحاورتها والتودد إليها حتى استضافتهم في رحبتها يغلب الظن أن هناك تسديداً إلهياً لهم بواسطة الفيض الغائب عجل الله فرجه الشريف لذلك هم مصداق يجسد الإرشادات التي وردت في وصية الإمام الصادق (ع) لعنوان البصري والتي تعتبر طويلة - نسبياً - نقتبس منها لب النور التي أوجزت به الوصية حيث يقول مولى الصادقين أبو عبد الله الإمام جعفر بن محمد الصادق عليهما السلام مخاطباً عنوان البصري:
”يَا أَبَا عَبْدِ اللَهِ! لَيْسَ العِلْمُ بِالتَّعَلُّمِ، إنَّمَا هُوَ نُورٌ يَقَعُ فِي قَلْبِ مَنْ يُرِيدُ اللهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى أَنْ يَهْدِيَهُ؛ فَإنْ أَرَدْتَ العِلْمَ فَاطْلُبْ أَوَّلاً فِي نَفْسِكَ حَقِيقَةَ العُبُودِيَّةِ، وَاطْلُبِ العِلْمَ بِاسْتِعْمَالِهِ، وَاسْتَفْهِمِ اللهَ يُفْهِمْكَ!“.
لكامل نص الرواية الشريفة شروح متوفرة - كما ذكر في موقع الراصد التابع للعتبة الحسينية المقدسة - تعرضت لها - منها تفصيلاً ومنها إجمالاً – ممن "تسالم عليها ولم يشكك فيها" وهي التالية:
1- منية المريد، الشهيد الثاني، ص 149
2- نفس الرحمن في فضائل سلمان، ميرزا حسين النوري الطبرسي، ص 237
3- الكشكول، ج 2، الشيخ البهائي العاملي، ص 165
4- الكنى والألقاب، ج 2، الشيخ عباس القمي، ص 86
5- السيد محسن الأمين، في أعيان الشيعة، «ج 1، ص 675».
6- الدرر النجفية من الملتقطات اليوسفية، ج 2، المحقق البحراني، ص 81
7- مقدمة في أصول الدين، الشيخ وحيد الخراساني، ص 523
8- الإمام الصادق (ع)، ج 2، الشيخ محمد حسن المظفر، ص 58
9- الأنوار الساطعة في شرح زيارة الجامعة، ج 3، الشيخ جواد بن عباس الكربلائي، ص 180
10- أسرار الملكوت، ج 1، السيد محمد محسن الطهراني، ص 38
11- تزكية النفس، السيد كاظم الحائري، ص 469
12- تفسير الصراط المستقيم، ج 1، السيد حسين بن محمد رضا البروجردي، ص 426
13- ينابيع الحكمة، ج 4، عباس الإسماعيلي اليزدي، ص 231
وللعلامة الراحل السيد عادل العلوي رضوان الله تعالى عليه محاضرات في شرح هذه الرواية الجليلة(3)
إن الله تبارك وتعالى بث دلائل قدرته في خلقه منهم أولئك الذين وهبهم الله القدرة على الإبداع في مجالات متعددة وتخصصات متفرعة.. أولئك الذين يجب أن ننظر إليهم على أنهم مظهر من مظاهر الجمال الإلهي فالنبوغ من أروع ما نتلذذ به في النوابغ عندما تراهم ينتقلون بين أعقد القضايا بسلاسة ورؤية وبصيرة إلهية..
بل حتى النوابغ الذين على غير الهدى ننظر إليهم من ناحية قدرة القادر الذي وهبهم ذلك - بغض النظر عن صحة ما يطرحون - فالعقل أروع ما في الإنسان وكثير من أولئك يسيرون سيراً فكرياً لكشف الحقائق الكونية.. ومنهم من يصل إلى نعيم الإيمان بعد التيه في صحراء الإلحاد.
النوابغ من أجلى المصاديق، وهناك مصاديق أخرى على درجات متفاوتة وإن لم تصل لحد النبوغ ما لم يؤثر ذلك على مبدأ التخصصية من خلال البناء المنهجي والعلمي لا عن طريق الاجتهاد الشخصي والتطفل بلا محاكمة أو إرشاد مختص.
خلاصة
ليس التخصص والعلم ابن من أبنائنا نحرم على الآخرين الخوض فيه ونشر نتائج عنه لذلك العلم يطلب لأجل العلم وليس لإثبات الذات وما إلى ذلك. وإن كان عن المزاحمة في الحديث عنه ماذا نصنع إذا كان المختص لا يصل حديثه للقلوب والعقول بينما المختص تخصصاً جزئياً يكون أروع من أهل الاختصاص في الطرح والوصول لآفاق القلوب والعقول إما لبراعته في تبسيط المعلومة أو النفحة الإلهية التي تسدده. إن لم تأنس بإنجازات الآخرين العلمية من خلال لذة التعلم والظفر بنور العلم أو اكتشاف شيء جديد.. فلست العلم تطلب بل ذاتك.
وهذا لا يعني ألا نتعلم.. ما نقصده أن هناك قداسة لبعض العلوم وطيور أعشاشها السماء لا يمكن جعلها أليفة لحضائرنا إلا بالتخلق بأخلاق العلم والتعلم.. والدين والتقوى والورع والإخلاص ولأخلاق المحمدية خير منزل لهذه الطيور الزاهية لحضائرنا.
همسة سجادية مقدسة سلام الله على مفيضها:
”.. اللَّهُمَّ وَأَنْطِقْنِي بِالْهُدى، وَأَلْهِمْنِي التَّقْوَى وَوَفِّقْنِي لِلَّتِيْ هِيَ أَزْكَى وَاسْتَعْمِلْنِي بِمَا هُوَ أَرْضَى. اللَّهُمَّ اسْلُكْ بِيَ الطَّرِيقَةَ الْمُثْلَى، وَاجْعَلْنِي عَلَى مِلَّتِكَ أَمُوتُ وَأَحْيَى..“
------
الهوامش:
https://www.youtube.com/watch?v=7a77qLJFjlo&list=PLrPdLnfeAldnUDtUIaFXlMfjwfidqq8Zt




