العلاقات البشرية تنمو وتكبر ويفوح عبيرها ، إذا اتكأت على ساق الحب وغصن الود وعلى أوراق الاحترام .
هي شجرة متفرعة ، تقوي جذورها الأخلاق الحميدة ، وتنخرها الصفات الذميمة ، كالحقد والحسد والتباغض والغيبة والنميمة واللعان والتناحر والجدال .
وكلما عرف الإنسان واجباته تجاه إخوانه في الدين والتزم بها ، كان في مأمن من الوقوع في الشبهات ، بعيداً عن مجهر التشريح الذي يطال الكثير ممن يتجاوزون حدودهم ، فيتعرضون للأذى والخصام ، ويخرجون من دائرة السلام الذي يطلبه صاحب الفطرة السليمة ، للعيش في حياة هادئة بعيدًا عن الصخب والضجيج .
العلاقات التي لا تبنى على الثقة والحب والاحترام ، تهتز بهمسة ريح ، تؤثر فيها أبسط الأشياء ، فتفضي إلى طريق مظلم ، لتجلب لأصحابها الكثير من المتاعب التي تمنعهم من التعايش مع نظرائهم في المجتمع ، لأنهم تخلّوا عن الثوابت ، وأوغلوا في الأمور التي تفكك الأواصر وتهدم الكيانات البشرية .
كثيرة هي المشاكل التي أصبحت معول هدم للقيم في المجتمع ، وقد ذكرنا بعضًا منها على سبيل التذكير كالحقد والحسد والغيبة والنميمة ... ، وهي بلا شك أمراض نسأل الله منها السلامة ، لأنها إن تمكنت من الإنسان حرمته لذة الطمأنينة والراحة النفسية ، وربما تكون أشد خطورة من الأمراض العضوية أو الجسدية .
إذا أردتَ أن تخسر أكبر عددٍ من المحيطين بك ، فاخلق مشكلة من لا مشكلة ..!
ستتعالى الأصوات وتتباين وجهات النظر ، وستسمع الكثير من العبارات المباشرة وغير المباشرة ، وربما تكون بين الصديق وصديقه ، وبين الجار وجاره ، وهكذا تتسع الدائرة ، ويتحول الحديث إلى جدال ..!
الجدال المحمود الذي تحث عليه الشريعة السماوية ، والذي يتخذ من كلمة الحق سبيلاً للإصلاح ورأب الصدع ، هذا مطلب نؤكد عليه ونأنس به ، لأن فيه أمر بالمعروف ونهي عن المنكر ، ويمر بخطوات محكمة ، إذ لابد أن يتحلى أصحابه بصفاتٍ جليلة ، كالإيمان والعدل والصدق والحلم وكظم الغيظ ورحابة الصدر واتساع الأفق وتقبل الرأي الآخر والاحترام .
أما الجدال المذموم ، فهو ما نخص به حديثنا ، الجدال الذي يسبب الفرقة في المجتمع وبين الأهل والأقارب ، بين مختلف الطبقات ، الجدال الذي يتسم بالغلظة والتشهير وكيل التهم والدخول في الذمم ، المبني على : سمعتُ من فلان ، وقال فلان .. ! وصلني عبر الواتس أب هذا الحديث ، في هذا المجلس قالوا كذا .. !
هذا النوع كفيل بأن يزرع الخلافات حتى داخل الأسرة الواحدة ، لأنه لا يستند على دليل ولا بينة ، يغلب عليه الصوت العالي ، والغضب المشتعل ، يكون عادة نتيجة حكم متسرع ، أو موقف عابر أو سوء فهم وارد ، أو نقل رسالة خاطئة ، أو في توقيت غير مناسب .
هذا النوع لا يسمى حوارًا ، بل منازعة ومغالبة .
الجدال هو المفاوضة على سبيل المنازعة ، وأصله من جدَلْتُ الحبل ، أي : أحكمتُ فتْله ، ومنه الجدال ، فكأن المتجادلين يفتل كل واحد الآخر عن رأيه .(1)
وثمةَ فرق بين الجدال والحوار ، فالأول يريد به المجادل معرفة مَن على حق ، أما الحوار فيراد منه ما الحق ؟
قال تعالى في سورة المجادلة : ( قد سمع الله قول التي تجادلك في زوجها وتشتكي إلى الله والله يسمع تحاوركما إن الله سميع بصير ) (2) .
الحوارات التي تحدث بين بني البشر ، هي أمر صحي ، ولغة إنسانية للتخاطب بين الناس ، ووسيلة للتعبير عن الرأي تجاه موقف أو حدث معين ، وهذا أمر في حد ذاته جميل .
نقرب وجهات النظر بيننا كإخوة بالحوار الهادف الذي يبتعد عن التعرض للشخوص والانتماءات ، مع الأخذ بعين الاعتبار أن للإنسان حرمة ومكانة عند الله ، وكرامة الإنسان ليس بالسهولة أن تسقط ، لذا فمن المهم مراعاة ذلك في حواراتنا الدائمة .
أما اتخاذ طريق الجدال والمنازعة في النيل من هذا أو ذاك ، فهو طريق مسدود لا يؤدي إلى خير ، بل ربما يفاقم من الخلافات والخصومة ، وما أحوجنا في هذا الوقت العصيب إلى ( كلمة سواء ) تجمعنا ولا تفرقنا ، تجدد فينا مشاعر الأخوة والقرب من بعضنا ، توثق حبال التواصل والتراحم ، تذكرنا بتقصيرنا تجاه من أخطأنا في حقهم ، وتحثنا على الاعتذار منهم ، ما أجمل أن نقف صفًا واحدًا لنبحث عن كل ما يجمعنا ونترك صغائر الأمور التي ليست من اختصاصنا .
الفُتية لها رجالها ، والطب له أهله ، والقانون له قُضاته ، والناس يختلفون في توجهاتهم واهتماماتهم ، ومن حقهم عليك أن تحترمهم ولا تفرض رأيك عليهم ، فالحساب عند رب واحد ، يعلم خائنة الأعين وما تخفي الصدور .
في مرات كثيرة تمنيتُ لو أنني لم أدخل في حوار مع أحد الأشخاص الأعزاء ، فقد كنت وأنا بعيد عنه نسبيًّا ، أستأنس به وأراه شخصية رائعة مسالمة قريبة من القلب ، وبمجرد استماعي له في إحدى الجلسات ، وأثناء حديثه مع شخص آخر في قضية ما ، اكتشفت توجهاته الغريبة وتحامله على الفضلاء ! وتمنيتُ لو أن الصورة الأولى تجاهه في ذهني لم تتغير .!
صدق مولانا أمير المؤمنين (ع) عندما قال : تكلموا تُعرفوا ، فإن المرء مخبوء تحت لسانه .(3)
كلِمتُك عندما تخرج من فمك ، لها أثر في مسامع الناس ، فلا تعجل في إطلاقها ، وحالنا اليوم يتيح للمرء أن يعبر عن آرائه خلف شاشة جهازه الذكي ( الجوال ) فيطلق الآراء والكلمات دون تحقق أو تثبت ، مما يثير حفيظة الآخرين ، فتكثر التكهنات ، وترمى التهم ويظهر سوء الظن ، وهذا ما لا نريده في هذا الوقت العصيب .
واللسان إما أن يرفعك أمام الله وأمام خلقه بعذوبته وحلاوة حرفه ، وإما أن يرمي بك في فضاء المجهول ، فتكون صغيرًا منبوذًا يتجنب الناس معاشرتك وقربك .
وفي هذا الصدد أستحضر هذه الأبيات لأحد الشعراء ويقول فيها :
عوّد لـسانك قولَ الخير تـنجُ به * في زلّـة اللفظ أو من زلّـة القدمِ
واحذر لسانك من خِلٍّ تـــنادمُهُ * إن النـــديمَ لَمشتَــقٌ مــن الندمِ
فمن يثيرك للكلام والتدخل في جميع الأمور ، يريد بك الوقيعة ، لينجو بنفسه ، فاحذر من أن تكون مُشعِلًا لشرارة الفتن .
ولا أبلغ من وصف أكثم بن صيفي في حفظ اللسان عندما قال : مقتل الرجل بين فكّيه – يعني لسانه – وقوله : لكل ساقطة لاقطة .
فكل ما ينطق لسانك يصل إلى مسامع المحيطين بك ، سواء أكان خيرًا أو شرًا .
أختم مقالي بقصة المثل الشهير في كتب التراث والأدب ( عنز وإن طارت ) ، أذكرها لنستخلص منها عبرة عسى أن تنفعني قبلكم وتنفعكم .
اختلف اثنان على سوادة في رحلة صيد ، فواحد يقول : هذا غراب ، وآخر يقول : هذه عنز !
واتفق الاثنان على أن يقوم واحد منهما برمي حجر عليها ، فإن طار فهو غراب ، وإن تحرّك في الأرض فهي عنز .
رمى أحدهما الحجر على هذه السوادة فطار الغراب !
فقال الأول : هل رأيت ؟ ألم أقل لك إنه غراب ؟!
فردَّ الآخر : عنز وإن طارت !
العبرة :
لا تتمسك برأيك إذا ظهر الدليل القاطع ، استفد من تجاربك في الحياة ، واحترم الرأي الآخر ، وشارك الناس حديثهم بود ، وتخلّق بصفات الحب لتكسب قلوب الآخرين .
فليس المحبوب من يعلو صوته ، وإنما هو مَن يبادل الناس حلاوة الحديث ومشاعر الود ، ويدعو إلى الوحدة ورأب الصدع ، ولا يسعى في بث الفرقة ، فالمرء مذكور بجميل قوله وفعاله .
إضاءة :
الجدال العقيم ، يقطع حبال الود بين أبناء المجتمع .
المصادر :
- المفردات في غريب القرآن ، للراغب .
- كتاب سياسة الحوار بين أتباع الأديان والثقافات .
- نهج البلاغة ، الحكم
التعليقات 2
2 pings
احمد البراهيم
2020-08-06 في 4:25 م[3] رابط التعليق
أحسنت ابو المنذر..
كلام سليم
بومهدي
2020-08-06 في 4:26 م[3] رابط التعليق
أحسنت ولا فُض فوك أستاذي العزيز وياليت قراءة الموضوع كاملاً من الجميع وعدم الاسقاط