في لحظات مصارحة حقيقية بعد التأمل في الحال المأساوي و السقطات في حفر الآثام و المعايب ، تنطلق صرخة روح متألمة من ذلك الواقع و تطلب تغيير المسار نحو الطهارة النفسية و التخلص من دنس الشهوات ، فالحياة السوداوية لها طريق لا يمكن أن تخفى نهايته المظلمة و هي الضياع و الحيرة و فقدان القدرة على الاتزان ، فكيف يمكن لتلك الروح المتعبة أن تقر و تهدأ أمام صورة رائعة و جميلة، لمن استطاع أن يحدث استدارة كاملة بملء إرادة حديدية استطاعت أن تخرق الحجب الظلامية و يبزغ منها نور الاستقامة و الهداية بعيدا عن متاهات الدنيا الفاتنة، فليس من السهل على من تدثّر بعباءة الغفلة و عمى البصيرة أن تتبلور منه صورة الملاك الطاهر ، إنها إرادة الكرامة و رفض الأسر لمتاع الدنيا الزائل و ذلك من خلال قرار كبير بوابته التوبة و الرجوع إلى الله تعالى، فالحر الرياحي عاش حياة التيهان و البعد عن الحقيقة بعد أن أرخى عين البصيرة عن رؤية جمال العزة و الفضيلة، وقف بين يدي النور الأبهر معلنا مستجدات مواقفه و تطلعاته و تصوراته ليعلنها على دكة الإقرار و الاعتراف، قد أشاح بوجهه عن كل تلك الأقاويل و الغمز الذي سيطاله و يتهمه بالجبن و الخيانة و ضعف الرأي ، إلا أن له نصيبا كبيرا من اسمه فالحرية سمة مهمة في شخصيته و تجلّت في إرادته و رؤيته للمستقبل الحقيقي، فلم يكن هناك متسع من الوقت أو فسحة من التأمل بعد أن اتّضحت الحقيقة المتطلّبة لموقف إنساني لا لبس فيه، فهناك النفس الذليلة المأسورة لأغلال حب الدنيا و متاعها الذي لا يلبث أن يغادر صاحبه أن يرحل بدون شيء منه ما عدا قطعة قماش ( الكفن )، و في مقابلها تتجلّى أمامه صورة النفس الحرة التي لا تلتزم لشيء سوى الحق و الفضيلة، و مهما كانت رحلة الضياع و امتدادها فإن رحلة الرجوع إلى الله تعالى لا يشبهها شيء في الدلائل و التأثير ، فإنها رحلة استعادة الإنسان نفسه من تغلغل الآفات الأخلاقية و النقائص، و عروج الروح نحو علياء التكامل و التمسك بالفضائل في محطات الاختبار و الابتلاء .
لم تكن مقاربة الحر الرياحي لمواقفه مجرد لحظة تأمل عابرة ، بل هو انقلاب حقيقي و انسلاخ من غشاوة الغفلة و الضياع و اتخاذ موقف مصيري و وجودي بملء الإرادة الصلبة ، فلم يكن أمر ترتيب أوراق حساباته إلا وليد الصدق مع النفس و شجاعة الموقف و استحضار الوقوف في يوم الحساب بين يدي ميزان العدالة الإلهية؛ ليفتح لنا باب الأمل و الرجاء بالرحمة و المغفرة الإلهية بعد أن تلطّخت أيدينا بالمعاصي و الآثام، فإن باب التوبة النصوح لا يغلقه سبحانه في وجه عباده الذين أسرفوا على أنفسهم بالتمادي بارتكاب الذنوب.
في دواخلنا يدور صراع مرير بين جبهة الخير و الصلاح و بين جبهة الشرور و العدوان ، و الميل نحو إحدى الكفتين ينشأ من مرجعية الحاكمية للعقل الواعي و البصيرة الواضحة أو إلى الأهواء و الشهوات المتفلتة، و التوبة النصوح انتصار حقيقي للعقل على تعمّق و تغلغل الشهوة و انكشاف للبصيرة عن المصير في الدار الآخرة، و ليس هناك من مساند قوي في تلك المكاشفة مع النفس كرؤية تجلي النفوس الطاهرة للأولياء و ماتحمله من فيوضات روحية و إيمانية و أخلاقية.