الجزء الأول
◾ يكفي السيّدة زينب(ع) فخراً بين نساء العالمين أنها النسمة الطاهرة والوليدة المباركة المُتسلسلة من الأصلاب الشامخة والأرحام المطهّرة التي أكرمها بارئها عن عبادة الأوثان وتوحيد خالق الأكوان ، ووطأت بقدميها أشرف وأطهر بيت أذن اللهُ أن يُرفع ويُذكر فيه اسمُه.
◾ من البديهي أن يفرح الأب أو الجدّ إذا رُزِق ولداً أو حفيداً ، لكن من غير المعهود أنّ الأب أو الجدّ إذا رُزِق ولداً أو حفيداً بكى وانتحب وذرف الدموع عليه !! ، فلماذا يحدّثنا التاريخ أنّ أمير المؤمنين (ع) بكى لمّا بُشّر بولادة السيدة زينب (ع) ؟ فسأله الحسينُ(ع) عن علّة بكائه، فأخبره عن سر ذلك ، ثمّ حُمِلت الوليدة الطاهرة إلى جدّها الحبيب محمّد (ص)، فاحتضن رسولُ الله (ص) الطفلةَ الصغيرة وقبّل وجهها ، ثمّ لم يتمالك أن أرخى عينَيه بالدموع.
◾ بَين الله فضل السيدة زينب (ع)الحوراء وبضعة الرسالة وربيبة الإمامة وعقيلة بني هاشم منذ ولادتها حينما اختار لها اسم زينب ، وهي منقبة عظيمة لم ينلها إلا خاصة من عباد الله المقربين.
◾ زينب هي الشجرة الحسنة المنظر الطيبة الرائحة ، ولعل من أسرار إطلاق هذا الاسم على زينب الحوراء (ع) أن كل حرف من حروف الهجاء الأربعة لاسمها يرمز إلى عظيم من العظماء ، فالزاء : يرمز إلى أمها الزهراء(ع) فورثت منها الصبر والصمود والتضحية والفداء ، والياء : يرمز إلى أبيها علي(ع) فورثت منه الشجاعة والشهامة والحلم والعلم ، والنون : يرمز إلى أخويها الإمامين الحسن والحسين (ع) وورثت منهما فضائل ومكارم وأخلاق وأدب ، والباء : يرمز إلى جدها المختار الرسول الأعظم (ص) وورثت منه سيادة وعز وشرف وسؤدد .
◾ حينما يبكي رسول الله (ص) على حفيدته السيدة زينب (ع)ويقول: مَن بكى على مصاب هذه البنت ، كان كمَن بكى على أخوَيها الحسن والحسين(ع) ، فهي دلالة قطعية على مكانة هذه المرأة عند الله ، وعند محمد وأهل بيته (ع) ، وتبيان لهول المصائب والرزايا التي ستواجهها في حياتها.
◾ تعددت ألقاب السيدة زينب(ع) التي جمعت الفضائل الحميدة والصفات الخيرة الدالة على منزلتها وارتباطها بالله بحيث يعجز البيان ويقصر القلم عن ذكر قليل من كثير عما اتصفت به من فضائل ومناقب ومن تلك الألقاب :العابدة والفاضلة والزاهدة والمحدثة والمخبرة والموثقة والحوراء والعارفة والعاقلة والكاملة والفصيحة والعالمة غير المعلمة والفاهمة غير المفهمة وكاملة اليقين والمعرفة والغيورة على الدين والراضية بالقدر والقضاء وقلادة الجلالة ونجمة سماء النبالة وأمينة الله وآية من آيات الله وولية الله العظمى والآمرة بالمعروف والناهية عن المنكر .
◾ نالت السيدة زينب(ع) ألقاباً ارتبط بنسبها وعلاقتها بأهل البيت(ع) منها : العقيلة الكبرى ، والصديقة الصغرى ، والمعصومة الصغرى ، ومليكة الدنيا ورضيعة الوحي ، وربيبة الفضل ، وعقيلة خدر الرسالة ، ورضيعة ثدي الولاية والخالصة في المودة ، ووليدة الفصاحة ، وربة الخدر ، وناموس العظمة ومحبوبة المصطفى ، وقبلة المرتضى ، وقرة عين المرتضى وسر أبيها ، ونائبة الزهراء وسليلتها ، وشقيقة الحسن المجتبى ، وعقيلة الطالبيين والهاشميين ، وسيدة العقائل وسلالة الولاية وعديلة الخامس من أهل الكساء.
◾ نالت السيدة زينب (ع) ألقاب عديدة ارتبط بجهادها مع أخيها الإمام الحسين (ع) ومما واجهته من محن ومصائب في كربلاء وبعدها ، ومن تلك الألقاب : المسبية والصابرة والباكية والوحيدة والغريبة والبليغة والأسيرة والمجاهدة والمحتسبة والممتحنة والمظلومة ، وشريكة الحسين وصاحبة النيابة ، وكفيلة السجاد وبطلة كربلاء وأم المصائب ، وكعبة الرزايا وكعبة الأحزان وقرينة النوائب وباب حطة الخطايا وكافلة النساء والأيتام.
◾ إن البناء المتكامل لشخصية السيدة زينب (ع) جاء نتيجة تمحور الخمسة أصحاب الكساء حول نشأتها بدء من العِلم المحمدي لجدها محمد(ص) ، واللبان الفاطمية لأمها الزهراء(ع) ، والكنف العلوي لأبيها علي(ع) والدفء الحسني لأخيها الحسن(ع) ، والحنان الحسيني لأخيها الحسين (ع).
◾ مثلت شخصية السيدة زينب(ع) جدها النبي محمد(ص)في حمل مبادئ الرسالة ، وأمها السيدة فاطمة الزهراء (ع) في فنون المعارضة الصلبة ، وأبيها الإمام علي(ع) في بطون الفصاحة والحجة ، وأخيها الإمام الحسن في مضامين الحلم والدراية (ع)، وأخيها الإمام الحسين (ع) في قمة الصبر والتضحية .
◾ ياترى كيف يفسر علماء النفس والتربية قدرة طفلة صغيرة لم يتعد عمرها أيام في الحياة استطاعت تمييز حجر ارتبط بروحها وكيانها بحيث لم تكف عن البكاء - بالرغم من وضعها في حجر أربعة من المعصومين بدء من حِجر جدها النبي محمد(ص) وحِجر الإمام علي (ع) وحِجر أمها فاطمة الزهراء(ع) ، وحِجر الإمام الحسن(ع) ، لكنها لم تكف عن بكائها إلا حينما وُضعت في حِجر الإمام الحسين(ع)؟!!.
◾ فن من فنون النقاش العلمي بين الأب وابنته ، بين أمير المؤمنين (ع) وابنته السيدة زينب(ع)حينما أخضعها لاختبار دقيق طلب فيه من صغيرته التي لم تتعد خمس سنين ترديد لفظة واحد فقالت : واحد ، ثم قال لها: بنيه قولي اثنان فامتنعت ، وقالت : إني استحيي أن أقول اثنين بلسان قلت به واحداً ، كناية على أن الفم الذي ينطق بالوحدانية لله لا يثنيه ويجعل له شريك!!، حينها التفتت البنت الصغيرة لأبيها وقالت: أتحبنا يا أبه؟ فأجابها أمير المؤمنين (ع) برأفة: بلى يا بنية ، فقالت: لا يجتمع حبان في قلب مؤمن حب الله وحب الأولاد ، وإن كان ولابد فالحب لله تعالى والشفقة للأولاد ، فأعجبه (ع) بكلامها وزاد في حبه وعطفه عليها ، فلم تكتفي السيدة زينب (ع)في اجتياز الاختبار ، بل وردت عليه باختبار من سنخه يدل رجاحة عقلها وأفق معرفتها الواسعة ، فاستحقت درجة الكمال المعرفي بجدارة واستحقاق.
◾ اتصفت السيدة زينب(ع) بأفضل السجايا الإنسانية وأشرفها ، وهي الصفات التي جعلتها تلم بالحقائق وتنال رضا خالقها ، وهذا ما يستقرأ من شهادة الكمال العلمي والمعرفي التي منحها لها ابن أخيها الإمام علي بن الحسين (ع) حينما خاطبها : أنت يا عمة بحمد الله عالمة غير معلمة ، وفهمة غير مفهمة ، فهي عالمة بالعلم اللدُنّيّ المُفاض من قِبل ربّ العزّة تعالى ، وليس بالعلم المتعارَف الذي يُكتسب بالدرس والبحث فارتقت بذلك إلى درجات عباد الله المخلِصين