ورد عن الإمام السجاد (ع): «أيها الناس، أُحذّركم الدنيا وما فيها...» (بلاغة الإمام السجاد للحائري، ص ٢٩).
الحياة الدنيا هي القضية المحورية في الخطاب الديني الذي تناول حقيقتها وأبعادها، والدور الوظيفي للإنسان العاقل فيها، ومدى الانسجام فيها بينه وبين هدف الإعمار والبناء بكافة أشكاله. وتأتي مثل هذه الكنوز الحِكمية لتُلقي الظلال وتُسلّط الضوء على هذه القضية، من خلال عبارات تختزل المفاهيم والمضامين والدروس. فالحياة الدنيا لها جوهرها الذي يحمل معاني الاقتدار والهمة العالية في قطف ثمار العمل الحثيث، والسعي نحو بلوغ الدرجات العُليا للفضيلة والتكامل، وهناك ظاهرها المُخادع والفَتّان والمُغري لطبيعته الغريزية والشهوية، والتي يمكن للانغماس فيها والاستجابة العمياء لندائها أن تُسقط الإنسان أرضًا، وتسلخ إنسانيته من الكرامة والحرية الحقيقية. إذ يغدو حينئذٍ أسيرًا لمتاعها الزائل، وقد غلّته غريزة حب المال بقيود الارتهان لها، بما يُكسبه الضعف في إرادته وهمّته واتخاذ قراره المنطقي والعقلائي، بعد أن سلّم زمام أموره لنفسه الأمّارة بالسوء واللذّات المُذلّة.
هذا الخطاب التحذيري من الإمام السجاد (ع) غير موجّه لجوهر الحياة الدنيا، ولا يدعو إلى تعطيل قدرات الإنسان عن الاستفادة القصوى منها، كيف وهي وسيلة وطريقة الفرد نحو صنع مستقبله الأخروي، الذي يمرّ بميدان الطاعة والعمل الصالح فيها. وإنما يتعلّق التحذير بـ "حفرة المكر الشيطاني" التي يتلاقى عندها البُعد الغريزي من الإنسان وتزيين الأهواء والمتاع الزائل. فليس هناك من دعوة إلى الانعزال والانزواء بعيدًا عن مباهج الحياة وإقامة العلاقات الاجتماعية الوازنة، فهذا بخلاف الغرض والهدف من خلق الإنسان القوي بعقله وقدراته وإرادته لإعمار الحياة الدنيا. وهذا الإعمار المتناسب والملائم لدوره الوظيفي يحتاج إلى رسم خارطة طريق ومنهج متوازن، يُبيّن كيفية التعاطي والتعامل مع الوجه المادي للحياة تحت مفهوم تهذيب النفس وتنقيتها من شوائب الأهواء والشهوات المتفلّتة.
فالحياة لها مفهوم واتجاه إيجابي، يعني: حياة المعرفة، والمخزون، والزاد العلمي والثقافي، والسعي الحثيث في ميدان الطاعة، والعلاقات الوازنة، والتعامل الأخلاقي الراقي. وهذا ما لا يقع في دائرة التحذير والتنبيه من المخاطر المُحدقة، بل هو عالم التزيين والاغترار بمتاع الدنيا، المؤدي إلى السقوط في وحل المعايب والرذائل. فهناك مسار يمكن أن يُبعد الفرد عن المنهج والغاية المتناسبة مع مكانته العالية المُكرَّمة، وهبة الرحمن الكبرى وهي "العقل المُفكّر". وهذا الطريق المعوّج، الذي يُلهيه عن دوره المتناسب مع قدراته، هو ما يقع التحذير من آلياته وسُبُله.
وتتضح حقيقة مهمة في الخطاب الديني ومنظوره للحياة الدنيا، أن الذمّ الوارد فيها لا يتعلّق بكونها ميدان عمل ومحطة اختبار لطاقاته وإمكاناته وتوظيفها بنحو إيجابي (العمل الصالح)، بل الأمر يتعلّق بالانحراف عن الهدف الوجودي والمصير اللائق بكرامته، بسبب تخلّيه عن العقل الواعي وسيره الأعمى خلف النزوات الآسرة. فيأتيه هذا التنوير الفكري، الداعي إلى بناء الإنسان الواعي، المتحمّل لمسؤولياته، والعارف بما يستقبله في اليوم الآخر من حساب ومجازاة على ما قدّم في دنياه من عمل، خيرًا كان أو شرًّا.