ورد أن الإمام الحسن المجتبى (ع) لما سئل : فما المجد ؟
قال (ع) : أن تعطي في الغرم ، و أن تعفو عن الجرم )( بحار الأنوار ج ٧٥ ص ١٠٢ ) .
يسعى الإنسان العاقل لامتشاق قمة السمو و المكانة العالية من خلال الأهداف التي يحققها بلوغا إلى منجزات تسطّر في سجل أعماله ، و هذه الأمجاد ليست وليدة لحظات عابرة أو ضربة حظ بل هي خلاصة تختزل مسيرة جادة في ميادين الحياة العلمية و العملية ، و هذا الوسام يُناط بإنجازات متعددة على مستوى مختلف أبعاد شخصيته الفكرية و النفسية و المهارية و الاجتماعية و الأخلاقية ، فإذا ما نظرنا إلى تلك الشخصية بنظرة متأنية و دقيقة سنجد نفسا قد تخلّصت من أغلال الأنا و شح النفس و المشاعر السلبية تجاه الآخرين نتيجة استفزاز أو إساءة ، كما أن العطاء بمختلف أبعاده و أشكاله المادية و المعنوية تعد سمة من أصحاب المجد و الرفعة الأخلاقية ، كما أن الصفات الحميدة و القيم التربوية يتحلى بها أهل المجد ، و لكن الإمام (ع) يشير إلى صفتين مهمتين تتعلقان بالعطاء و العفو عن المسيء ، فهما تدلان على ذلك التألق الأخلاقي و ضبط النفس و مشاعرها تجاه مختلف المواقف و الظروف الصعبة ، فالكرم يدل على مشاركة وجدانية مع المعوزين و المساهمة في تخفيف أعباء الحياة عنهم ، و هم كُثر - و لله الحمد - و لكن قمة العطاء و التخلص من أسر و حب المال السلبي هو العطاء و مد يد العون للمحتاج في وقت يكون المنفق في أمس الحاجة لذلك العطاء ( الغرم أي الحاجة الشديدة للمال ) ، و لكن نفسه تسمح بالمال لتنشيف دمعة الفقير و اليتيم و ذلك يمثّل قمة السعادة و السرور عندهم ، هذه القامة المعطاءة تكون قد بلغت حقا قمة المجد ، و في الجانب الآخر هناك تعامل إنساني نبيل يدل على الكرم و المروءة يتجلّى عند منعطف التجاوز عليه و توجيه إساءة له ، و في وقت ينتظر منه أن يقابل الإساءة بمثلها و الكلمة البذيئة أو القاسية بما لا يقل عنها سوءا ، و إذ تتحرّك في النفس رغبة في الانتقام بعد انفعال شديد و لكنه يقابلها بتهدئة و ضبط يحافظ فيه على قيمه و يتجاوز هذه الإهانة بالعفو و التسامح ، و هذا لا يعني أن الصفح و خلو القلب من مشاعر الكراهية و الأحقاد أو استعمال أساليب التجاهل و الضرب تحت الحزام يعد أمرا سهلا ، بل هذا المجد نتاج تربية مستمرة للنفس و تدقيق و محاسبة و دقة في التفاعلات و العلاقات الأسرية و الاجتماعية .
النفوس الصانعة للأمجاد لا تنطلق من فضاء اللا وعي أو ضعف الإرادات و حياة الفراغ و الفوضى و التيه ،بل هناك دوافع و محركات نفسية منسجمة مع الصور الفكرية المتطلّعة إلى مكانة عالية من التألق تحوز عليها ، و تتآزر مع تربية توجّه طاقات الفرد و إمكانياته نحو ميدان العمل المثابر دون إغفال عن المساحة الاجتماعية و الأخلاقية في النفس ، فالعطاء لا حدود و لا إمكانيات مطلوبة لتحقيقه بل هو استجابة طبيعية من النفوس الكبيرة و مشاركة وجدانية تتخطّى فكرة الاقتصار على المنافع الشخصية ، كما أن التخلّي عن الاستجابات العمياء لكل استفزاز للمشاعر يعني الدخول في ساحة معترك الحياة لخوض صراعات جانبية بشكل مستمر ، مع ما يعنيه من التخلي عن أهداف حياتية مرسومة و الإصابة بالاحتراق النفسي و الاختناق العاطفي ، و هذا ما يظهر معنى المجد الحقيقي المتمثّل في القدرة على كبح جماح النفس أمام الرغبات المذلة كحب المال الشديد أو انفلات عقال المشاعر ، بل هو سيادة على النفس و ضبط لإيقاع التصرفات وفق الحكمة و العطاء و التسامح .