المصائب لا تأتي فرادى.. قانون الحياة الذي لا يخيب
"When sorrows come, they come not single spies but in battalions"
(حين تأتي الأحزان، لا تأتي كجواسيس منفردين، بل ككتائب)
هكذا عبّر الكاتب الإنجليزي الشهير ويليام شكسبير في مسرحيته الخالدة هاملت عن حقيقة مؤلمة: أن المصائب، حين تأتي، لا تأتي فرادى، بل تتراكم كما تتقدم الجيوش، دفعة واحدة وبلا رحمة.
وما بين سطور الأدب والتاريخ، وبين آيات الكتاب الكريم، تتجلى هذه الحقيقة كواحدة من سنن الله في الابتلاء والتمحيص، سواء على مستوى الأفراد أو الأمم.
فالقرآن الكريم أشار بوضوح إلى أن الشدائد قد تأتي متتالية، بل ومتنوعة، كما في قوله تعالى:
"ولنبلونّكم بشيءٍ من الخوف والجوع ونقصٍ من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين"
الآية لم تتحدث عن محنة واحدة، بل عن سلسلة من الابتلاءات التي تصيب جوانب متعددة من حياة الإنسان. ومع ذلك، ختمت ببشارة عظيمة: "وبشر الصابرين".
إذا يقول المولى تعالى: "فإن مع العسر يسرًا، إن مع العسر يسرًا"
أي أن مع كل عسر، هناك يسْران، لا يسرٌ واحد، ما يؤكد أن الفرج لا يغيب طويلاً عن طريق أهل الثبات.
ولنا في قصص الأنبياء مصداقًا لمثل هذا القانون.
فالنبي أيوب عليه السلام ابتُلي بفقد المال، ثم الأبناء، ثم الصحة، حتى صار مضربًا للمثل في الصبر. ومع ذلك لم يفقد ثقته بربه:
إذ يقول في محكم آيات القرآن الكريم: "أني مسّني الضر وأنت أرحم الراحمين" فاستجاب له الله، ورد له كل ما فقده، بل وأكثر.
وفي قصة أصحاب الأخدود، نرى ابتلاءً جماعيًا، حين أحرق المؤمنون أحياء في النار لمجرد إيمانهم، في مشهد يصوّره القرآن بقوة:
"قُتل أصحاب الأخدود، النار ذات الوقود، إذ هم عليها قعود، وهم على ما يفعلون بالمؤمنين شهود"
وهل يعيد التاريخ نفسه في المحن والابتلاءات؟ نعم فعندما سقطت الأندلس، التي كانت منارة للحضارة الإسلامية لثمانية قرون، بدأت مصائبها بالترف والغفلة والانقسام، ثم توالت عليها الكوارث السياسية والعسكرية، حتى سقطت مدينة غرناطة عام 1492م. وهنا تستوقفنا آية جامعة:
"وضرب الله مثلاً قريةً كانت آمنةً مطمئنةً يأتيها رزقها رغدًا من كل مكان، فكفرت بأنعم الله، فأذاقها الله لباس الجوع والخوف بما كانوا يصنعون" (النحل: 112)
أما اليوم، فلا تزال المجتمعات تعيش هذا النمط من الابتلاءات المتداخلة، حروب، أوبئة، أزمات اقتصادية، انقسامات فكرية واجتماعية، وتحديات أخلاقية وتعليمية. وكأن الدائرة لم تنكسر بعد، أو أن الرسالة لم تُفهم جيدًا.
فهذه الحروب في سوريا، فلسطين، السودان، اليمن وغيرها مؤشرا بليغا على وجود وتكرار هذه الأزمات الاجتماعية والانفلاتات الاقتصادية، والحرمان والجوع، والفتك الجماعي كلها تحديات تعليمية وثقافية وأخلاقية
والصبر عنوانها والثبات من عند الله ومن أنفس من هم تحت وطأة تلك الأزمات، والفرج من الله قريب.
ولا نقول فقط من يبتلى فقير أو بائس، فحتى حياة العظماء والأغنياء كانت المصائب غاليا ما تزورهم بالجملة فمثلا نيلسون مانديلا سُجن 27 عامًا، فُصل من عمله، وواجه العنصرية، لكنه خرج ليقود بلاده إلى العدالة والتسامح.
وكذلك ستيف جوبز طُرد من شركته، خسر مشاريعه، ثم أُصيب بالسرطان، لكنه عاد ليقود "آبل" إلى قمة شركات التكنولوجيا عالميًا.
نحن نقول حين تتزاحم المصائب، يجب أن تمسّك بالمعنى، نعم صحيح أن المصائب لا تأتي فرادى، لكنّها لا تأتي عبثًا.
تأتي لتوقظ، لتصفّي، لتختبر، وربما لتهيئ الإنسان أو الأمة لمرحلة جديدة، أنضج وأعمق. وكل من صبر واستوعب المعنى، لم يكن في موقع الضحية، بل في موقع الناجي المتألق.
يقول الله تعالى: "أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يأتكم مثلُ الذين خلوا من قبلكم، مسّتهم البأساء والضراء وزُلزلوا حتى يقول الرسول والذين آمنوا معه متى نصر الله؟ ألا إن نصر الله قريب"