كواشف شخصية الآخر و دواخله من أفكار و أفعال مضمرة تمثّل رغبة ملحة عند الواحد منا ، و ذلك ليتمكّن من التعامل وفق صورة واضحة بعيدا عن الأقنعة و الاشتباه و الخداع ، و لكنه بعيد المنال إن سرنا خلف المدعيات من الكلمات الصادرة من الشخص ذاته و التي يعبّر فيها عن مكنوناته و إمكانياته ، و ما يوقعنا في فخ شخصيات تتميز بالانتهازية أو المخادعة أو ضحية الأحلام الوردية و السقوف العالية أو ضعف الإرادة هو الاكتفاء بالمدعيات الكلامية ، فكلها حالات مشاهدة بالوجدان يمكن مصادفتها و التفاعل مع الصورة المرسومة للآمال المشتركة و تكون نهايتها التبخّر و التلاشي ، و هذا ما يدعونا إلى البحث عن معيار حقيقي نبني عليه خطانا الاجتماعية و نقيم عليه أسس علاقات وازنة و راسخة .
المواقف العملية هي المعيار و المؤشر على تجلي صفات الفرد النفسية و الأخلاقية و نضج عقله ، فتلك المحطات الصعبة تظهر من يحتمي خلف الكلمات المعسولة و الرنانة لينسحب في الخفاء و يطوي سجل علاقات بقلم الرصاص كما يقال ، بينما هناك من ترى منه صدق المواساة و المشاركة الوجدانية و العمل الجاد على تخفيف التوتر النفسي و التشوش الفكري الذي نعاني منه إثر الأزمات ؛ ليكون العامل الزمني شاهدا و مؤشرا على العشرة الطيبة و الموقف الصادق و يؤسس لعلاقات ناجحة و قوية أمام هجمات الزمن الصعب .
الثبات في المواقف العملية يتطلّب شخصية صادقة في مودتها و تبذل جهدها للمساعدة ، و ذلك أن الظهور المفاجيء للأزمات لا يمنح أحدا فرصة لبلورة موقفه و تظهيره و إعطائه صبغة جميلة من خلال كلمات الود و العطف ، و إنما تحفّز المحن و الصعاب ما بداخل الإنسان من قيم و طريقة تفكير دون أي إضافات أو خفاء لجزئيات من تلك المواقف ، فمن كان يحمل في دواخله الصدق و الأمانة و المساندة سيبرزها بشكل عملي في ساعة الاختبار الحقيقي ، بينما أصحاب الأقنعة الزائفة يتساقطون على عتبات الأزمات و تظهر حقائقهم و معادنهم و يرحلون مع أول منعطف ينفذون منه ، و ستتجلّى منهم الحقيقة المخفية من أنانية و خيانة و تخلّ عن المسئولية الاجتماعية و مؤازرة وقت الشدائد .
الظروف الصعبة و مواجهة ضغوط حياتية لا يخلو منها أحد مهما كان وضعه الاجتماعي أو المالي بكل أحواله ، و بالتالي لا يمكن لأي فرد التذرّع في أوقات مرور صاحبه بشدة بأنه يمر بظروف مشابهة تمنعه حتى من مجرّد المشاركة الوجدانية ، فالانشغال بأمور المعيشة و العمل على تحقيق الأهداف لا يعيق أبدا عن الإحساس بهموم الأصدقاء و الوقوف معهم في محنهم بقدر الإمكانيات المتاحة .
المواقف الصعبة تعد كاشفا لحقيقة النوايا و صدقها بعد أن يواجه الجميع الحدث بما يمتلكه من صفات ، فيتساقط البعض و يتحوّل كالرماد بعد أن صهرته حرارة المواجهة و هناك آخرون كالذهب يزدادون ألقا بعد أن أثبتوا أنهم جديرون بالصحبة ، فشتان ما بين من تتملّكه الأنانية و بين من يضحّي بشيء من وقته و جهده في سبيل مساعدة أصدقائه ، و بالتأكيد فإن الأوقات الصعبة و الأزمات يتلوها تقييما شاملا لمجمل علاقاتنا فهناك من يغادر أو تفتر العلاقة معه أو تزداد متانة بعد وقفاته الصادقة .