ليست كالطرقات التي اعتدتُ أن أمشي عليها، بدت طويلةً نوعًا ما، اختلف لون الأشجار التي تحفها، وتباعدت قليلًا عمّا كانت عليه، ولونها كذلك اختلف، وتباينت أحجام وريقاتها فلم تعد كسابقتها. الهواء الذي كان يحفّ بها تغيّر وأصبح ثقيلًا لا يهزّ أغصانها، وتساقطت منها بعض أزهارها على ظلال المنازل المجاورة لها، والتي هي أيضًا اختلف حجمها وشكلها. كل شيء بدا مختلفًا، لا لونٌ ولا شكلٌ ولا رائحة.
وليست هي ذاتها الأشخاص الذين ترددت على مسامعي أصواتها، وارتسمت في عينيّ ابتساماتها وبريق عينيها حينما كانت تتعالى أصوات ضحكاتها. لم يعد خيالها يرتسم على جدران المنازل التي أدخلها، ولا رائحة عطرها باتت عابقةً بين زوايا الغرف التي كانت تجمعنا.
بين عالمين قد تختلف فيها الأشياء التي اعتدتها، كان لزاما على الروح والنفس أن تدرك حقيقة هذا التغير، وأن تتجاوز حدود دهشة هذا الاختلاف، وأن تعي بأن لا شيء ثابت إلا ما قُدّر له الثبات.
فما بين غفلةِ الأحداث المتواترة كل يومٍ، وانتباهنا لمسيرتها وسلوكها وتأثيرها علينا، نحن مكلّفون بأن نتوقف للتفكير والتأمل فيها وفينا، وموازنة أيّهما يسيطر على الآخر.
كيف للنفس الضعيفة التي خلقها الله أن تتصبّر، وأن تتجلّد لكل هذه التغيرات؟
كيف لها أن تدرك العالمين، وألّا تخلط بين عالمٍ مضى، وعالمٍ آتٍ، وعالمٍ هي عالقةٌ فيه وعليها أن تعيش أحداثه، يوميّاته، تفاصيله، وأن تنتظر إشراقة شمس كل يومٍ بنفسٍ مختلفةٍ وروحٍ مطمئنةٍ راضية، قانعة، غير مضجرةٍ أو مضطربة؟
يجب أن ندرك أنه حين تبقى الجذور التي تمنحنا الاتزان ثابتة، والتي قد تحاول الرياح المتغيرة بين الحين والآخر أن تقتلعها، وتصر تجاربنا التي تدور معنا في كل زمان ومكان أن تبقي آثارها واضحة علينا، أن النفس والروح معا في اتحاد على تحدي كل معترك في هذه الحياة.
ومن الجذور التي تُبقي على بصيصٍ من الأمل لدينا هي القيم والمبادئ التي تُشكّل أساس التعامل مع النفس والآخرين، كالصدق والإخلاص والإحسان، فهي لا تتغير بتغير الزمان والمكان. إذ ليست كمظاهر الحياة وأساليبها، من علمٍ وتقنيةٍ وتطورٍ اجتماعي، تتبدل باستمرار لتواكب الاحتياجات والتطلعات الكثيرة.
وأننا بهذه القيم نستطيع أن نواجه الظروف الصعبة، ونتخذ القرارات الجيدة التي من خلالها نستكمل رحلتنا في هذه الحياة بأقل الخسائر، والكثير من الطمأنينة بأن ما أصابنا لم يكن ليُخطئنا، وما أخطأنا لم يكن ليصيبنا، وبأن أقدارنا مكتوبة، وحظوظنا مخطوطةٌ بسعينا الحثيث نحو الطريق الصحيح والجادة السليمة.
الثابت من اليقين يمنحنا الأمان، والمتغير من الرضا والقناعة يمنحنا الحياة.
وبين الاثنين تُولد الحكمة التي تجعلنا نسير بخطى ثابتةٍ في عالمٍ لا يعرف السكون.