سبحان الخالق الذي عجننا من طين لازب، وشكّلنا صورًا متنوعة الألوان، وبث فينا أرواحًا مختلفة. كلنا بشر من أبٍ وأم، وكل الآباء والأمهات من آدم وحواء، (ومن كل شيء خلقنا زوجين لعلكم تذكرون) – الذاريات: 49.
ورغم أن طينتنا واحدة، إلا أننا مختلفون بما لا يمكن قياسه أو إحصاؤه: في الأمزجة والطباع، في اللون والخَلقة، في البذل والعطاء، في تذوّق الفن والطعام، في الدين والمذهب، في استيعاب وفهم الأمور، في العقل والمنطق، وفي الملبس والمأكل والمظهر… وكل شاردة وواردة من صنوف الاختلافات تجعلنا مختلفين جدًا.
ومع كل هذه الفروق، يظل الإنسان، مهما ارتفعت مكانته أو علت قيمته عند الآخرين، مثل صلصال هين، قابل للتشكّل مرارًا وتكرارًا. الحوادث والظروف لها القدرة على تشكيله بطرق لا يمكن تقديرها بسهولة، سواء أكان هذا التشكل إيجابيًا أم سلبيًا.
ذات مرة، سألني أحدهم: كيف يمكن للإنسان أن يصبح فنانًا، ويرسم بريشته أو بقلمه فنًا يعبر عن الفرح والغموض معًا، ويأخذنا عبره إلى ما وراء حدود الحياة؟
ويصدق هذا السؤال على اختلاف البشر ومهنهم: من المهندس والطبيب والمعلم، إلى العامل والصانع والخباز والخياط… فالاختلاف هو الذي يجعل كل فرد مميزًا. ومن جعلنا مختلفين هو ذاته الذي منح البعض القدرة على الإبداع كفنان، أو التدخل كجراح، أو البناء كالخباز.
قد تغيّر البيئة ملامحنا بأشعتها وريحها، وقد تؤثر العلاقات في قراراتنا، لكن الذات هي العامل الأكبر في صناعة الفارق بين البشر، وجعل الاختلاف علامة واضحة للآخرين.
ما نمتلكه من إرادة وهمّة في صقل شخصياتنا الصلصالية، يشبه عزيمة الفنان حين يرسم ما ليس موجودًا في الواقع، لكنه في جوهره حياة. يشبه الجراح حين يشقّ جزءًا من الجسم ثم يعيده للحياة، ويشبه الخباز حين يحوّل الدقيق والماء إلى عجينة تقوينا على تحديات الحياة.
يقول المولى عز وجل: ﴿ومن آياته خلق السماوات والأرض واختلاف ألسنتكم وألوانكم إن في ذلك لآيات للعالمين﴾ – سورة الروم: 22.
إن اختلاف اللون واللسان دليل على قدرة الله تعالى، فكيف باختلاف الشخصيات؟ قد تكون طيبة، شريرة، شغوفة، مبتكرة، مترددة، ملهمة، محبطة، وغيرها ما لا يمكن حصره.
من وضع هذا التنوع في الشخصيات؟ من وسّع الفارق بين الإخوة، ومن جعلهم لا يشبهون بعضهم؟ من ألهم الأرواح أن تسكن في غير من يختارها، أو أن تنفر من من لم يناسبها؟ من أحسن صورنا وألواننا؟
تتجلى القدرة الإلهية والقدرة الذاتية، وظروف الزمن، والتجارب، والمواقف الصعبة و الناجحة، وعوامل البيئة والأصدقاء والأعداء، في صقل شخصياتنا. تتحول الشخصية من سيئة إلى حسنة، ومن محبطة إلى ملهمة، والعكس صحيح. وهنا تظهر مرونة الإنسان وقدرته على التبدل والتشكل حسب ما تتعرض له شخصيته، مما يؤكد أن التغيير ممكن دائمًا، متى ما أراد الإنسان، أو حين تملي الظروف ذلك.
ويقول الشاعر نزار قباني، وهو ما يناسب هذا المعنى:
"سأرسمُ وجهكِ فوق جدارٍ من الشِّعر،
كي لا يمرَّ المساءُ بلا ملامحكِ،
وكي تتكئَ الذاكرةُ على ظلكِ حين يضيقُ الوقت،
فأكتبُكِ… كما لو أنّ اللغةَ خلقتْ لأجلكِ،
وأحملُكِ بين أسطري
كما يُخفِي العاشقُ نبضَهُ الأخير."




