تقبل محطات زمانية ببشرى النفحات و الجوائز الإلهية للعباد ، و التي تحفّزهم و تحرك قواهم نحو ميدان الطاعة و العبادة و الارتقاء الروحي و التوازن الفكري ، و يوم عرفة من الأيام العظيمة التي لها خصوصيتها و فضلها الذي يدفع المرء نحو اغتنام هذه الفرصة و تحويلها إلى موقع توبة نصوح يعترف فيها بما ارتكبه من خطايا و تقصير ، و يدعو ربه أن ينال كفلا من رحمته الواسعة و عفوه العظيم بما يعيده إلى موقعية الطهارة النفسية من شوائب الرذائل ، و من أفضل السبل في هذا اليوم لتستيقظ الروح من سباتها و غفلتها هي تلك المضامين التي يحملها دعاء الإمام الحسين (ع) في يوم عرفة ، فهو - بحق - موسوعة متكاملة من المفاهيم العقائدية و التأملات الفكرية و مسلك عرفاني يأخذ بيد السالك نحو طريق الحق و الهداية ، فالاستعداد العقلي بتخليته من التيه و التجوال في التفكير بالأمور الدنيوية ، و التهيؤ النفسي للاغتراف من هذا الكنز المعرفي و الروحي بما يعلي نفسه نحو الخوف من الله تعالى و الحذر من مواطن الزلل ، و يتلو فيه من الكلمات ما يظهر الافتقار إلى التدبير و حاجته إلى التوفيق الإلهي ، و هذه الومضات المعرفية تنير عقله و تعيد حساباته بالانشغال بما يعمر مستقبله الأخروي ، و بلا شك أن إرادته تتقوى في طريق الطاعة و الصبر على أداء العبادات .
هذا الدعاء منهج عقائدي في بيان أصل التوحيد و إثبات الأسماء الحسنى و الصفات الإلهية الثبوتية ، كما أن استعراض نظام البناء البدني للإنسان و استعراض أجزائه ، بما يعرّف الداعي بتلك النعم الإلهية في الملاءمة بين التركيب و الوظيفة فيها ، و هذا ما يرسّخ عقيدة الإيمان بالله تعالى عبر نظام العقل الواعي و الفكر الرشيد ، و يبرمج العقل الإيماني لفهم حقيقة الأحداث و مجريات الأمور و تدبير شئون العباد في كل حالاتها ، نحو الحكمة و العدل الإلهي حتى في حالات الضراء و الابتلاء و إن كنا نجهل المصلحة و المنفعة فيها ، و يحدد الموقف الإيماني أمام المصاعب و المصائب بالرضا و التسليم ، و هذا لا يتعارض مع الأخذ بالأسباب و العمل على الخروج من عنق الزجاجة للمشاكل .
و بخلاف الجانب العقائدي فهناك الجانب العرفاني لتطهير النفس من شوائب الخطايا و الرذائل الأخلاقية ، و ذلك من خلال الوقوف أمام مرآة النفس و محاسبتها و التدقيق في كل ما يصدر منه لتصحيح و معالجة أخطائه ، و تلك المعالجة حركة عملية تجسد خوفه من الله تعالى بالتحرز عن الأسباب و العوامل المؤدية للانزلاق في وحل المعاصي ، كما أن التواضع أمام العظمة الإلهية يقود نحو الاعتراف بالخطيئة دون مكابرة .
علاقة الإنسان بربه في خط التقرب يرسم معالهما دعاء عرفة من خلال الدعوة إلى الالتزام بالصدق في كل الأحوال ، و التمسك بالعروة الوثقى للتقوى بالتورع عن محارم الله تعالى و التزام قيم الدين السامية ، و هذا ما يجلي حقيقة الدنيا المرتبط بعالم الآخرة في وجهها المتوافق مع الكرامة و الإرادة الإنسانية ، من خلال العمل في خط طاعة الله تعالى و الترفع عما يسقطه على أرض النقائص .